الكتاب سميري.. حين عزّ مسامري
حمد بن عبدالله القاضي
الكتاب سميري.. حين عزّ مسامري
***
حمد بن عبدالله القاضي
عـضو مجلس الـشورى السابق
أمين عام مجلس أمناء مؤسسة
الشيخ حمد الجاسر الثقافية
** لا أتخيل الدنيا بدون الكتاب أو بالأحرى دون ((ثقافة مطبوعة)).
ولا أتصور العالم بدون حبر المطابع، وعطر الحبر.
وليست هذه نظرة حالمة.. أو لأن ((الحب للحبيب الأول)) بصفة الكتاب أول عشقي الثقافي، ولكن لأني أُؤمن ـ حد اليقين ـ أن ثقافة الكتاب أبقى وأمتع وأيسر. أليس الكتاب ـ كما قال الجاحظ في مقولة جميلة أخاذة: ((يفيدك ولا يستفيد منك إن جدّ فعبرة وإن مزح فنزهة))، ولأن الكتاب من نافذة أخرى مطواع بين يديك تقرؤه وتفيد منه، وتستمتع به وأنت جالس على الأرض، أو مسافر في طائرة، ودون وسيلة أو وسيط أو واسطة، إنك لا تحتاج إلى تيار كهرباء .. ولا إلى طقوس وطريقة جلوس معينة للإفادة منه بخلاف كل الوسائل المعلوماتية الحديثة التي تحتاج إلى شاشات حاسوبية وطاقة وأسلاك كهربائية وغيرها.
***
إن رحلتي الشخصية والمعرفية مع الكتاب بدأت منذ عرفت نفسي، ولقد نشأت وفي يدي كتاب . إنني منذ عهد الصبا في مدينتي الوادعة ((عنيزة)) بالمملكة العربية السعودية، وأنا أسعد بمرافقة الكتاب وصحبته.
لقد بدأت رحلتي في عشق الكتاب من أول نظرة، لقد كنت محظوظاً إذ نشأت وعلى مقربة مني مكتبة وكتاب وصحف ومجلات وأساتذة ورفاق يحفزونني على القراءة ويجذبونني إليها.
لقد كان أول كتاب قرأته للمنفلوطي كتاب ((النظرات)). ولهذا الكتاب ولكتب المنفلوطي أثر كبير على حرفي في مجال الكتابة ذات ((الصبغة الرومانسية)) ثم بدأت بقراءة الكتب الأدبية وبخاصة كتب طه حسين العقاد ومارون عبود الذي كان يشدني أسلوبه وقد كان لـه فضل علي في توجهي للكتابات الأدبية والنقدية وبداية دخولي عالم الكتابة.
ثم بعد انتقالي إلى مدينة الرياض للدراسة الجامعية اتجهت إلى قراءة الشعر وكان للشاعر السعودي المعروف أحمد الصالح ((مسافر)) أثر في هذا الانحياز للشعر الذي لا يزال معي ولدي ((ملف أخضر)) فيه من أجمل الشعر الذي قرأته وأصطحبه معي في أسفاري أحياناً ، وقد أرشدني أ. الصالح – في بداية تعلقي بالشعر – إلى بعض الدواوين الشعرية لشعراء المهجر وعمر أبو ريشة وإبراهيم ناجي وغازي القصيبي.
ثم بعد ذلك اتجهت نحو الكتب ذات الاهتمام الاجتماعي والثقافي والتاريخي وبخاصة الكتب التي تجسد سماحة الإسلام بطرح مضيء ومفكرين ذوي رؤية مستنيرة مثل الشيخ الـغـزالي، وأ. خالد محمد خالد، وتحديداً كتابه ((رجال حول الرسول)) هذا الذي تحسّ وأنت تقرؤه أنه يكتب شعراً مؤثراً لا تاريخاً معلوماتياً، والشيخ يوسف القرضاوي. ومن الكتب التي قرأتها في الآونة الأخيرة وتأثرت بها كتاب ((رفع الحرج في الشريعة الإسلامية)) لمؤلفه الشيخ الدكتور صالح بن حميد الذي جسد فيه مؤلفه سماحة الإسلام بمنهج علمي وبأسلوب مقنع. ومن الكتب التي قرأتها وتأثرت بها كتاب الدكتور غازي القصيبي المعروف ((حياة في الإدارة)) فهو من أفضل الكتب الذي كشف فيها أن الإدارة فن، وأن النجاح فيها إرادة وإبداع وتجاوز للعقبات كما قال أحد المفكرين.
***
أما علاقتي بكتب التراث فلم انفصل عنها بحكم دراستي أولاً ثم اهتمامي وعشقي للتراث، ومن الكتب العجيبة في تراثنا ذلك الكتاب العجيب فعلاً الذي أدركت ـ بعد قراءته ـ كم هو تراثنا غني وعظيم، أعني كتاب (( الشرح الوافي)). إن هذا الكتاب الذي لا تتجاوز صفحاته (214) صفحة يحتوي على خمسة علوم هي: الفقه، العروض، التاريخ، النحو، القوافي قدَّمه مؤلفه ((إسماعيل المقري)) ـ رحمه الله على شكل جداول منسقة وجميلة وأدعو هنا إلى تقديم تراثنا بطريقة عصرية وربطه بإيقاع وهموم عصرنا لشدّ الناس والجيل الجديد بخاصة إليه. وهنا لا بد من تقديم الشكر لمعالي الأديب الدكتور عبدالعزيز الخويطر الذي أسهم إسهاماً كبيراً في تقديم تراثنا بطريقة عصرية مغرية عبر كتابه الجميل ((بُني)) (خمسة أجزاء) وعبر موسوعته ((إطلالة على التراث)) خمسة عشر جزءاً.
***
إنني أدين في مصادقتي ((للكتاب)) لممارسة الكتابة ومرافقة القلم، فالكاتب لا بد أن يقرأ ويقرأ، وقد كانت بدايتي في عالم الكتابة كتابات وخواطر ذاتية ثم اتجهت إلى ((الكتابة الأدبية)) وبعدها توجهت إلى الكتابة في الشأن الاجتماعي والوطني وودعت الكتابة بالفضاء الأدبي إلا نادراً ومع الأسف (( فالأدب)) الذي أدخلني إلى الصحافة. جاءت هذه الصحافة الناكرة للجميل فأخرجتني من نعيم الكتابة الأدبية إلى أوار الكتابة الصحافية وما أزال أكتوي على لظاها.
***
هنا أتوقف لأطمئن نفسي وغيري من عشاق ((الكلمة المكتوبة)) أنه رغم تفجر المعلومات عبر قنوات المعرفة الحديثة، فقد ظل وسيظل الكتاب مطلوباً وستبقى الكلمة المطبوعة معشوقة ، أقول هذا من خلال ما أعيشه كورّاق وأشاهد الإقبال عليه يتنامى رغم الصوارف المعرفية الجديدة، ولنر: ما تقدمه المطابع وما تمتلئ به رفوف المكتبات التجارية ـ ولو لم يكن هناك قارئ لما طبعت صحيفة أو مجلة، ولما نشر أو وزع كتاب ـ المهم أن يوجد كتاب جيد ليوجد قارئ متابع.. وليس هناك ـ في هذه الحياة ـ شيء ينفي شيئاً.. فالإذاعة لم تنف الكتاب، والتلفزيون لم يطرد الإذاعة، وكذا الحاسب الآلي والإنترنت، فلكل عشاقه بل إن هناك تكاملاً بين هذه الأدوات الثقافية لا إقصاء لأحد منها.
***
\
وبعد..
إنه لا يزعجني ـ كما أحس أنه يزعج غيري من عشاق القراءة ـ سوى شح الوقت، وكثرة المشاغل وإيقاع العصر.. هذه التي تحدّ من السخاء بالوقت عليك لتقرأ.. وكم يؤلمني عندما أجد هاتيك الكتب التي ابتعتها أو أهديت إلي ثم أُلقيت على أكثرها نظرة سريعة، وبعد ذلك ضممتها إلى مكتبتي وكأني أواريها الثرى منتظرة بعثها أو كـأنها معشوقة تتوق إلى من يحتضن صفحاتها ويعانق أغلفتها، هي وأنا بانتظار الوقت الذي قد يأتي وقد لا يأتي ـ على صهوة الثواني ـ إن كان في العمر فسحة.
لازال حلم التفرغ للحرف قراءة وكتابة حلماً يراودني ويعانقني، وذلك هو الأبهى والأسلم، ألم يقل الشاعر السعودي محمد بن عثيمين صادقاً عندما قال:
(( جعـلت سمـيـري حـين عـزّ سـامــري
دفــاتــر أمـلـتـها الـعـقـول الـنـوابــغ ))
إن حلمي أن أتخلص ـ في يوم من الأيام ـ من التزاماتي العملية وأن أخصص الوقت الأكثر لمعانقة أهدابي لخدود الصفحات.. ولم لا يكون ذلك حلماً منتظراً؟ أليس الكتاب هو الذي كلما أضنتك أشجانك وأشجان أمّتك وجدت على ساعد حرفه الارتياح وألفيت في دفء حروفه ما يخفف عنك صقيع الأيام.
هذا حلم هل يتحقق أم لا.. ذلك علمه عند ربي وإلا فالقضية كما قالت تلك الشاعرة الحالمة وهي تغازل أحلامها التي قد لا تستطيع لثم شفتيها:
منىً إن تــكـن حـقـاً أسـعــد الــمـنى
وإلا فـقـد عـشْـنـا بـهـا زمـــنـاً وغـــدا
وكل حرف وأنتم بخير وسعادة.