ملامح من حياة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي
صالح محمد العثمان القاضي
تمهيد:
الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي أحد علماء عنيزة الأفاضل والذي كان له فضل كبير في نشر العلم والثقافة في بلادنا الكريمة، وقد مضى على وفاته تسع وعشرون ستة. وهو من الذين يستحقون الثناء لما قدمه –رحمه الله- من خدمة للعلم والعلماء، فطلابه ينتشرون في محاكم القضاء ودور العلم في أرجاء هذه اللاد الطاهرة، وكتبه ومؤلفاته تملأ المكتبات والمؤسسات العلمية والثقافية ولم يكن لي شرف لقائه فقد توفاه الله وأنا صغير، ولكن من علم والدي وأساتذتي فقد علمني، ولي شرف عظيم عنه في هذه العجالة .. أقول بأنني أعيد ذكراه لكي لا ننساه.
النشأة:
وُلِدَ في بلدة عنيزة بالقصيم 12 محرم 1307 هـ/ 1889م، (قبل واقعة الميلداالشهيرة بسنة واحدة) وعاش يتيمً الأبوين حيث توفيت والدته وعمره أربع سنوات، وتوفي والده وعمره سبع سنوات، ينتمي شيخنا الفاضل إلى بني عمرو من قبيلة تميم ونزح أجداده من فغار(قرب حائل) إلى عنيزة سنة 1120هـ زكان والده -رحمه الله- عالماً وإماماً لمسجد “الموسكف” فقام برعايته وتنشئته تنشئة صالحة.
تربيته وأخلاقه:
لقد تولاه والده العالم الجليل بالرعاية والتربية الحسنة، لكن الأجل لم يمهله ليتم ما بدأه فتوفى سنة 1313هـ.
كان شيخنا منذ نشأته صالحاً محافظاً على أصول دينه ومحباً للخير، وأقبل على العلم بجد ونشاط، وكان ذكياً محباً للمناقشة والبحث مجبوباً لدى عارفيه لتواضعه وطيب أخلاقه، ولم يفرق في المعاملة بين صغير أو كبير ولا بين غني أو فقير، وكان ورعاً عزيز النفس محباً لفعل الخير في كل أموره، طلق الوجه لا يرى عليه الغضب لسماحته ونبله .. وكان كثير الاجتماع مع العامة والخاصة دمث الأخلاق لطيف المعشر ينساب حديثه العذب إلى النفوس فيجذبها إليه جذباً، زاهداً معرضاً عن الدنيا حيث عرض عليع القضاء عام 1360هـ فأبى ذلك منصرفاً للعلم والعبادة.
دراسته وآثاره العلمية:
قرأ القرآن الكريم وحفظه قبل سن البلوغ على يد الشيخ سليمان الدامغ .. وقرأ الحديث والمصطلحوالأصول والفروع والتفسيرعلى أيدي المشائخ ابراهيم الجاسر، محمد العبدالكريم الشبل، صعب التويجري، صالح العثمات القاضي ..
كما قرأ أصول الدين مع كل من المشائخ صالح القاضي، علي السناني، وابراهيم العيسى.
كما كان من مشائخه محمد أمين الشنقيطي ومحمد العبدالعزيز المانع وعبدالله بن عائض وعلي أبو وادي وكان مشائخه معجبين بفرط ذكائه ونبله واستقامته وحرصه على التعلم.
وقد أثرت فيه هذه التربية وهذا االتعليم بما ترك من آثار علمية، ونذكر
من مؤلفاته ما يلي:
- عدة أجزاء من تفسير القرآن الكريم أسماها “تيسير الكريم المنان”.
- القواعد الحسان لتفسير القرآن.
- إرشاد البصائر.
- الدرة المختصرة في محاسن الإسلام.
- الخطب العصرية.
- الحق الواضح.
- توضيح الكاشية الشافية.
- وجوب التعاون بين المسلمين.
- القول السديد في مقاصد التوحيد.
- طريق الوصول إلى العلم.
طريقته في التعليم:
كان رحمه الله يأخذ بالطرق الحديثه التي أوصى بها علماء التربية، حيث يتيح للطلاب أن يختاروا الموضوع الذي يريدونه وذلك مرعاة للفروق الفردية وإبرازاً لحرية التعبير عن الرأي الشخصي ومتى اختلف التلاميذ كان الحكم بينهم.
كما كان يعمل المناظرات لشحذ أذهانهم وهذه أيضاً طريقة حديثة في التربية حيث يتغلب فيها المعلم على سأم وملل طلابه تخلصاً من طريقة المحاضرات الطويلة. وكان حسن الإستنباط لفوائد الأحاديث وساعده في ذلك قوة ذاكرته وحفظه وفصاحته وجزالة لفظه. وكان يجلس أربع جلسات لطلاب العلم ليلاً ونهاراً وتخرج على يديه علماء وقضاة يتربعون الآن في مناصب عليا بالدولة الكريمة. وإنني في هذه المناسبة لأدعو جميع من نهلوا من علمه الغزير أن يجددوا ذكراه بالكتابة عنه وبعث ما خفى من فضله وعلمه.
طرقه في الفتوى:
كان يميل رحمه الله في فتاويه ومؤلفاته وتدريسه إلى اختيارات بن تيمية وبن القيم وربما يخرج عنهما إذا قوى عند الدليل، ويجعل مذهب الإمام أحمد بن حنبل أساساً له إذا لم يتوفر خلافه، وكان يفتي تارة بالرد على المراسلات ولكن كثيراُ ما يفتي شفهياً ومما زاد من علمه في هذا الشأن مكاتبته لعلماء الأمصار ومفكري الأفاق في جديد المسائل وخفايا الأمور حتى صار لديه جرأة وجسارة على تطبيق بعض النصوص الكريمة على بعض المخترعات العلمية الحديثة.
الشيخ كما يراه تلاميذه:
يقول والدي الشيخ محمد العثمان القاضي (وكان ممن لازموه ودرسوا على يديه):
“كان له مكانة مرموقة وكلمة نافذة وعنده غيرة وفيه نخوة ومخما أردت أن أصفه فإن القلم سيجف ويعجز اللسان على الإحاطة بشمائله الحميدة وأخلاقه الفذة فلقد خلف فراغاً واسعاً حينما فقدناه فقد كان أنس المحافل وقد سكن حبه في سويداء القلوب”.
ويقول الشيخ عبدالله العبدالرحمن البسام: ” كان مرجع بلاده وعمدتهم في جميع أحوالهم وشؤونهم فهو مدرس الطلاب وواعظ العامة وإمام الجامع وخطيبه ومفتي البلدة وكاتب الوثائق ومحرر الأوقاف والوصايا وعاقد الأنكحة ومستشارهم في كل ما يهمهم، وكان لا ينقطع عن زيارتهم في بيوتهم ومشاركتهم في مجتماعتهم ومع هذا بارك الله في أوقاته فقام بهذه الأشياء كلها ولم تصرفه عن التأليف والمراجعة والبحث وأعطى كل ذي حق حقه”.
ويقول الشيخ عبدالرحمن العبدالعزيز الزامل السليم (شعراً):
“دع عنك ذكر الهوى واذكر أخاً ثقة
يدعو إلى العلم لم يقعد به الضجر
شمس العلوم ومن بالفضل متصف
مفتاح خير إلى الطاعات مبتكر
بحر من العلم نال العلم في صغر
مع التقى حيث ذاك الفوز والظفر
نال العلا يافعا تعلو مراتبه
ففضله عند كل الناس مشتهر
بالفقه في الدين نال الخير أجمعه
والفقه في الدين غصن كله ثمر
مرضه ووفاته:
أصيب رحمه الله بمرض ضغط الدم الذي الفراش فسافر إلى بيروت سنة 1373هـ حيث أمضى أربعين يوماً تحت العلاج إلى أن شفاه الله حيث نصحه الأطباء بالخلود إلى الراحة ولكن شيخنا عاود عمله واجتهاده حتى عاوده المرض فأرسلت طائرة من المغفور له الملك سعود لنقله للعلاج وكذلك طائرة أخرى بعد ذلك من الملك فيصل رحمه الله ولكن الأجل كان أسرع حيث فاضت روحه الطاهرة قرب طلوع الفجر من ليلة الخميس 23 جمادى الآخرة عام 1376 هـ- 1956م، رحمه الله وأحسن إليه، وأَجْزَلَ له المثوبة جزاءَ ما قدَّم من خدمة العلم وأهله، وما أن أعلن نبأ وفاته حتى أصاب الناس حزن عميق من هول المصيبة فانهمرت الدموع من الصغير والكبير والقريب والبعيد وأقيمت عليه الصلاة بعد لظهر وحضر تشيع جنازته حمع غفير من أهالي عنيزة وما جاورها فامتلأ المسجد بالمصلين وما تسمع يوم ذلك إلا بكاء على الفقيد حتى النساء وقفن في الشوارع يدعين له بالرحمة والرضوان رحمه الله واسكنه فسيح جناته.
بعض المراثي حزنا على الفقيد:
نظراً لما تمتع بع المرحوم ابن سعدي من حب ومكانة في النفوس فقد تركت وفاته حزناً عميقاً أثار عواطف بعض الشعراء الذين جادت قرائحهم بلغة الحزن الخالدة بالحرف الحزين والعاطفة الجياشة ونختار بعضاً منها:
يفول الدكتور عبدالله الصالح العثيمين من قصيده مطلعها:
مهج تذوب وأنفس تتحسر
ولظى على شغف القلوب تسعر
الحزن أضرم في الجوانح والأسى
يصلي المشاعر بالجحيم ويصهر
ملأ الضمائر حسرة وكآبة
لا شيء يبرئها ولا هي تجبر
اليوم ودعنا أباً ومهذبا
والحزن يغلي في الدماء ويزخر
إلى أن يقول في وصف المنظر العام لجنازته:
لما بدا للحاضرين كيانه
والنعش يزهو بالفقيد ويفخر
هلعت لمنظره النفوس كآبة
وبدا على كل الوجوه تحسر
نظروا إليه فصعدت زفراتهم
والدمع غمر في المحاجر يحمر
كل يحاول أن يغطي دمعه
لكنه يلقي النقاب فيسفر
يتزاحمون ليحملوه كأنهم
سيل يموج وأبحر لا تجزر
ثم يقول الشاعر بعد هول المضيبة مؤمنا بقضاء الله وقدرهوأن الموت حق:
كل امرئ في الكون غايته الردى
والموت حتم للأنام مقدر
كتب الفناء على الأنام جميعهم
سيان فيهم فاجر ومطهر
لكن من اتخذ الصلاح شعاره
تفنى الخليقة وهو حي يذكر
ما مات من نشر الفضيلة والتقى
وأقام صرحاً أسه لا يكسر
ويختم قصيدته بقوله:
نم في جنان الخلد يا علم التقى
وانعم بظل وارف لا يحسر
ويقول الشاعر صالح العبدالعزيز العثيمين في قصيدة مطلعها:
رزء عظيم آثار الحزن والاسفا
فالدمع فيه على الخدين قد وكفا
إلى أن يقول في فقده:
اليوم حقا فقدنا للهدى علما
اليوم حقا فقدنا الزهد والشرفا
بقت عنيزة دهراً وهي رافعة
لواء فخر له كل الورى عرفا
ويختم قثيدته بالعاء له فيقول:
والله يجزيه عن إحسانه حسنا
والله يسكنه من جنة غرفا
كما رثاه المرحوم صالح العبدالله الشبيلي بقصيدة مؤثرة مطلعها:
الحمد لله حمدا أستعين به
ربي على صدمتي عن بث أحزاني
فيا لها صدمة ما قبلها صدمت
نفسي وما اكتحلت بالنوم أجفاني
ويا لها نكبة ما قبلها نكبت
أهل القصيم بأشياخ وشبان
إلى أن يقول معدداً محاسن الفقيد:
يقابل السوء بالإحسان شيمته
يغضي بطرفيه إعراضا عن الجاني
أيا عنيزة ثوب الحزن فاتزري
على فقيدي فكتم الحزن أعياني
المال يفنى ويفنى ذكر صاحبه
والعلم يأتي جديدا بعد أزمان
أرجو إلهي إذا ما مت يرحمني
ومن بشيخي فقيد الكل عزاني
فما المعزى ومن عزى وجبرتهم
إلا على النعش ممهود بأكفان