الشيخ حمد الجاسر الرائد التنويري في سوانح ذكرياته
حمد بن عبدالله القاضي
الشيخ حمد الجاسر الرائد التنويري في سوانح ذكرياته
***
حمد بن عبدالله القاضي
عـضو مجلس الـشورى السابق
أمين عام مجلس أمناء مؤسسة
الشيخ حمد الجاسر الثقافية
محاور المحاضرة
** مدخل:
** طموحه وعصاميته:
** ذاكرته العجيبة:
** تقديره الكبير للمرأة:
** فرحته بالنقد أكثر من الإطراء:
** تواضع صادق غير مزيف:
** الجاسر .. ونظرته للحياة:
** كيف بدأ نشر ذكرياته في المجلة العربية؟
** ذكريات كان لها صداها:
** الشيخ والتكريم الذي حظي به في حياته:
** الشيخ حمد وروحه الطيبة:
** الشيخ حمد و((التنورة)) في مجمع اللغة العربية:
** طرائف من رحلات الشيخ حمد الجاسر:
** وأخيراً كاتب التاريخ يكتبه التاريخ:
***
بسم الله الرحمن الرحيم
** مدخل:
تُرى كيف يتحدث المرء عن والده الروحي، وعن ((عاشق أرضه ومستأرضيها))، كما أطلقه عليه الأديب الراحل محمد حسين زيدان!.
هذا الرائد العصامي الشيخ حمد الجاسر – رحمه الله – الذي صنع من ضعفه قوة ومن مرضه عافية، ومن شح المعرفة في بلدته ثراء.
ولولا نفسه الشموخ، وعصاميته النادرة، وتوقه الشديد للمعرفة لظل((فلاحاً)) بسيطاً يعمل محراثه في الأرض كواحد من آلاف الفلاحين.
ولكن، لعله أدرك أنه خُلق لغير ذلك، وأن كثيرين غيره يمكن أن يقوموا بهذا الدور،فانطلق ينشد المعرفة، ويتغرب في الأرض ليكون -بالفعل – ((فلاحاً))، ولكنه ((فلاح)) يحرث بعينه، وينقب ببصيرته ويزرع شتلات المعرفة في فضاء الورقة .. أجل ((فلاح)) يجوب الدنيا من أجل الفلاح في حرفة الحرف، والاحتفاء بالضياء في مدارات العلم ليطلق – بعد ذلك – نوارس كلماته، لتبقى خالدة على هامة التاريخ والجغرافيا والأنساب، وليخلد عطاؤه في ميادين الصحافة، والحراك الوطني والاجتماعي، والفضاء المعرفي، والخطاب الثقافي والأدبي.
إنني في السطور الآتية سأتوقف عند لمحات بعض المحطات في حياة هذا الرائد ((التنويري))، حيث سعدت بمعايشة بعضها وبالوقوف مع شطرها الآخر مريدا، وأزعم أني شرفت بفيض محبته التي ظللتني غمامتها تلميذاً وابنا.
***
** طموحه وعصاميته:
المحطة الأولى: أول ما يلفت النظر في محطات الشيخ حمد الجاسر طموحه وعصاميته!.
فقد كانت نفسه كبيرة، وإذا كانت النفوس كباراً لا ترضى بغير حصد نجوم المعرفة، فكان أن دخل ميدان العلم وسافر – رغم ظروفه آنذاك: صغر سن، وقلة ذات يده، وبُعْد عن الأهل، مع صعوبة التواصل – إلى حيث العلم توقاً للنجاح والعطاء وآفاق المعرفة وسماوات الكلمة وسموها!.
لقد ترك بلدته ((البرود)) إلى الرياض ثم إلى مكة المكرمة، وهو لا يملك سوى ثالوث النجاح ((الإصرار والصبر والعصامية))!.
كان شاباً صغيراً يافعاً، وكان السفر شاقاً وعسيراً حيث لا يستطيعه إلا كبار السن والمجربون.
وكان خالي الجيب إلا من دراهم معدودات حتى إنه اضطر – في إحدى مراحل دراسته – أن يبيع كتابين من أهم الكتب عنده من أجل حاجته إلى مدد مادي لإيفاء حاجات مسكنه ومأكله وملبسه.
***
** ذاكرته العجيبة:
المحطة الثانية: التي أتيح لشراع حرفي أن يرسي عليها هي: ذاكرة الشيخ حمد – رحمه الله – العجيبة لقد كان يتمتع بذاكرة نادرة، أعانته – بعد عون الله – على تدوين تلك المعلومات الوافرة سواء في مجال التاريخ أو الأنساب أو الجغرافيا أو اللغة وفنون الأدب.
لقد كان – رحمه الله – يعرف الأشخاص وأنسابهم وأخبارهم، ويتذكر البلدان وهجرها ومدنها ووديانها وجبالها.
كما كان – رحمه الله – بصيراً بالكتب وأرقام صفحاتها.
وأذكر موقفاً واحداً يدل على قوة حافظته، فقد كنا عنده في إحدى الخميسيات جلوساً جاثين حول ركبتيه ننهل من نهر معرفته، وحدث اختلاف حول معلومة وفاة أحد الشعراء العباسيين، فما كان من الشيخ إلا أن أمر أحد تلامذته المحبين لـه د/ عايض الردادي بأن يأتي بكتاب ((الأعلام)) ويفتحه على صفحة كذا.. وفعلاً تم ذلك وحصلنا على المعلومة في موقعها، رحمه الله.
***
** تقديره الكبير للمرأة:
المحطة الثالثة: تقدير الشيخ حمد للمرأة بريادة تحسب لـه في بواكير الانطلاقة التعليمية الرجالية إذ هو- بوصفه ((مثقـفاً طليعياً)) – يُعد من أوائل من دعا إلى تعليمها، وطالب بمساهمتها في تنمية وطنها، وفتح المجال لها للمشاركة في الصحافة كتابة وعملا، وتكمن قيمة هذه الدعوة في ظروف المجتمع آنذاك، التي لا تمنح للمرأة أي دور في الحياة ،سوى خدمة بيتها، أو الاقتصار على فك الحروف لقراءة كتاب ربها.
لقد كان الشيخ الجاسر من أوائل من طالب بفتح المدارس والمعاهد من خلال مجلته الرائدة ((اليمامة)) كمافتح المجال أمام الأقلام الأخرى للإلحاح على هذا المطلب، وكان لـه ولزميله الرائد الشيخ عبدالله بن خميس، من خلال صحيفة ((الجزيرة)) التي أسسها ابن خميس كان لهما الفضل وقصب السبق في ذلك، وبخاصة في منطقة نجد، وفعلاً تحقق أملها، وافتتحت المدارس والمعاهد والجامعات وتخرجت فيها مئات الآلاف من السعوديات، اللواتي أصبحن في ندية وزمالة مع الرجال إبداعاً وتفوقاً وعطاء.
هذا جانب ريادته وعطائه من أجل المرأة في شأنها العام!.
أما احتفاؤه بالمرأة على المستوى الشخصي والإنساني فهذا أمر يشع بالوفاء، ويشي بالخلق الرفيع والوعي المستنير، فقد كان وفاؤه لزوجته ((أم محمد العنقري)) – حفظها الله – على وجه الخصوص نادراً، ومن يقرأ ما كتبه عنها في مذكراته يجد وفاءً يندر مثيله لهذه المرأة العظيمة التي اعترف لها – هذا الرجل وما أقل – مع كل أسف – ما يعترف الرجال بفضل المرأة – بأنها أحد أهم أسباب إصدار بحوثه وعطاءاته وتفرغه لعلمه وعمله؛ بسبب ما قامت به من شؤون الأولاد وهموم البيت، وتوفير الوقت لـه للمزيد من العطاء وأداء رسالته نحو وطنه وتاريخه وإنسانه.
اقرؤوا هذه الأسطر الرائعة التي تفيض امتناناً ووفاءً لهذه المرأة وذلك فيما كتبه في ذكرياته التي نشرها في ((المجلة العربية)) عدد ربيع الآخر 1414هـ الحلقة (239) في سلسلة ذكرياته وسوانحه:
((ويقتضي الوفاء، أن أعترف بما كان لزوجتي من جهود كان لها أعمق الأثر في اجتياز أبنائها وبناتها مراحل دراستهم بطريقة مرضية، ولما لها من آراء سديدة، ونظرات صائبة، وعزيمة قوية في حسن توجيههم، وفي تربيتهم تربية مثالية، مع العناية التامة بجميع أحوالهم في البيت وفي المدرسة، وبذلك أتاحت لي من الاستقرار والانصراف للعمل المثمر أطول فترة من الزمن عشتها، إذ كفتني الاشتغال بما أنا مطالب به من تفقد أحوال الأولاد في مسيرتهم الدراسية، وجميع شؤون البيت))، ويضيف بثقة لم يمنعه كبرياء الرجل – كما يمنع العادي من الرجال – أن يقول بكل نبل: ((وأصبحت متفرغاً مُدة استطعت خلالها أن أنشئ (دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر) وأن أصدر فيما بعد – مجلة العرب – وكان لذلك التفرغ الذهني والاستقرار النفسي أثرهما في تقديم ما استطعت تقديمه خلال ما ينشر في ((مجلة العرب)) وما تصدره ((دار اليمامة)) مما ألفته أو حققته من كتب، مما يُعدُّ أهم ما استطعت تقديمه في حياتي، ولتلك الزوجة الوفية في كل ذلك فضلها الذي لا ينسى، حيث لم تقف عند حد عنايتها بجميع أحوال أبنائها، ورعاية شؤون بيتها، بل أضفت على قلب زوجها من الراحة ما مهد أمامه السبل ليبذل ما يستطيع بذله فيما اتجه لـه من عمل نافع)).
***
** فرحته بالنقد أكثر من الإطراء:
كان الشيخ حمد – رحمه الله – يفرح بالنقد أكثر من فرحته بالثناء، ودائماً يقول: ((إن المرء يرى أن ما يقدمه هو أحسن ما لديه، ولكنه بحاجة إلى من يريه مثالب عمله)) وهو ينطلق في ذلك من نشدانه الحقيقة، والإفادة من أي نقد لأي بحث ينشره أو كتاب يصدره، وكان يتمثل مقولة الإمام الشافعي – رحمه الله: [ما ناظرت أحداً إلا تمنيت أن يجري الله الحق على لسانه].
لقد كان يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة عن أي طريق، وكم أشار في طبعات كتبه التالية إلى أنه أفاد من نقد الكتّاب بل ومن ملاحظات القراء.
أذكر مرة أنني أرسلت لـه مقالاً نقدياً حاداً ((على إحدى سوانحه)) في ((المجلة العربية))، ليطلع عليه، ولم أشأ أن أذهب بالمقال شخصياً خشية أن يغضب الشيخ من النقد القاسي فيه، وأنا لا أتحمل أن أرى شيخي غاضباً أو شجناً، ولكني فوجئت بهاتفه الصباحي المبكِّر قائلاً: ((يا بُني – وهذا النداء – دائماً ما ينادي به أبناءه صُلباً أو حرفا: ((يا بني لقد اطلعت على النقد، وأريد منك أن تنشره بحذافيره..)) وفعلاً تم ذلك ورد عليه الشيخ بعد ذلك رداً هادئاً مغلفاً بالشكر والتقدير لكاتبه.
إنها أخلاق الكبار الواثقين بأنفسهم وعلمهم وأعمالهم.
** تواضع صادق غير مزيف:
كان الشيخ – رحمه الله – بسيطاً في حياته، وفي تعامله، وفي كلماته حتى أنك إذا تكلمت معه أو زرته لا تظنه الرجل العلامة الذي طبقت شهرته الآفاق!
وذات مرة طلب مني مسؤول خليجي صديق زار الرياض – وكان لـه اهتمام ثقافي وتاريخي – ترتيب لقاء لـه مع الشيخ حمد، وأفدته أن الأمر ميسر واقترحت عليه أن أرتفقه إلى ((خميسية الشيخ)) وفعلاً تم ذلك، وأنس الضيف بالجلسة وسأل الشيخ: العديد من الأسئلة، وقال: بعد أن خرجنا كنت أعرف علم الشيخ لكن لم أكن أعرف هذه البساطة لديه.
وأمر آخر، ففي الوقت الذي يفرح ويطير فيه بعض الناس بالألقاب كان الشيخ حمد من أكثر الناس زهداً فيها وكرهاً لها، ومن يعرفه – رحمه الله – يعرف كيف يتضايق الشيخ عندما يقال أو يكتب عنه أنه [علامة الجزيرة] وكنت أكتبها على مذكراته، وطلب مني أكثر من مرة – وبحدة – أن أحذفها إذا أردت استمرار كتابته في ((المجلة العربية)).
إنها الثقة بالنفس وحسب.
وهذا اللقب ((علامة الجزيرة)) حق لـه، ولمن لا يعرف، فإن الذي أطلقه عليه هو عميد الأدب العربي د. طه حسين في إحدى جلسات مجمع اللغة العربية.
** الجاسر .. ونظرته للحياة:
الكل يعرف الشيخ حمد الجاسر مؤرخاً وأديباً وجغرافياً لكنّ قليلين عرفوه مفكراً ذا رؤية للحياة بناها على تجاربه في هذه الدنيا، وهي تكشف عن نظرة عميقة لقيمة الحياة، وتفاهة إقامة الإنسان فيها جسداً لا فكراً، ودعوني أجعلكم تلمسون بعض جوانب هذه الرؤية في هذه المقولات الحكيمة لـه، وكلها تشير إلى أنه رحل عن هذه الدنيا وهو مرتاح لما قدمه لدينه ووطنه وأمته رحمه الله.
***
** الرواية الأولى:
((مهما نال المرء في دنياه من وسائل السعادة من غنى وجاه، وراحة وصحة فسرعان ما يزول كل ذلك بانتهاء عمره ـ طال أو قصر ـ ولن يبقى لـه من كل ما تمتع به مدة حياته سوى الذكر بعد وفاته. وأعقل الناس من استطاع أن يضيف إلى عمره القصير في الدنيا عمراً آخر، أطول منه ـ كما قال المتنبي:
((ذكرُ الفتى عمره الثاني، وحاجتُه
ما قاتَه، وفضولُ العيش إشغالُ))
ورجال الفكر، من ذوي الآثار النافعة تطول أعمارهم بقدر ما لأفكارهم من أثر في حياة المجتمع، وبقدر ذلك الأثر يخلدون. وهناك من فئام الناس من يرتفع صيته، وتنتشر شهرته في عالمه الذي عاش فيه، كارتفاع زبد البحر أثناء تلاطم أمواجه، وحين يهدأ يتلاشى ذلك الزبد)).
أما المقولة الثانية: فهي تبلور نظرته العجيبة للموت والفناء وتفسيره لخشية الناس من الرحيل، ومثل هذه الرؤية المبثوثة في كتبه وإصداراته ومقالاته تكشف عن جانب الأديب الرقيق والمفكر العميق بين برديه رحمه الله.
يقول الشيخ حمد في هذه الرؤية:
((الناس يخافون من الموت، ولكن خوفهم من الموت هو الموت، لأن الموت لا ألم لـه، الموت ارتياح، الموت حالة سلبية، وإنما يتجسم الخوف في الخوف من الموت.. لماذا؟ لأنني أحس أنني قطعت مرحلة من حياتي أشبعت فيها جميع رغباتي النفسية وأصبحت مرتاح الضمير لا أتطلع إلى شيء لا إلى مال فلدي ما يكفيني ويزيد عليّ ولا أتطلع إلى بنين فقد هيأ الله لي ما فيه الكفاية، ولا أتطلع إلى جاه لأنني أرى الجاه أحقر من أن يتطلع إليه المرء إذا لم يكن أثراً من آثار عمله النافع، وليس في قدرتي أن أقوم بأعمال عظيمة أضيف إلى جاهي جاهاً، انتهت قوتي وأوشكت حياتي أن تنتهي، إذن أنا لا أتطلع لشيء.. لماذا إذن أخاف من الموت..)).
***
** كيف بدأ نشر ذكرياته في المجلة العربية؟
لقد كنت أطلب منه – كلما زرته لأنهل من علمه – نشر ذكرياته، وكنت أعلم أن الكثير منها مكتوب، وكان- رحمه الله – يمتنع ويصرفني عن الحديث حول هذا الموضوع.
وذات مرة ((تحايلت)) على شيخي – عفا الله عنه وعني – وأخذت فصلاً من((إحدى رحلاته)) المنشورة، وأعدت نشرها في ((المجلة العربية)) في بداية عام 1406هـ ولقيت صدى طيباً، وتلقى – رحمه الله – عدة اتصالات وكتابات تطلب منه الاستمرار في كتابة ذكرياته ورحلاته، وظل فترة لم يستجب لرغبتهم ورغبتي، ثم بعد عدة أشهر أفادني أنه سوف ينشر بعض مذكراته وفي البداية كان يعطيني منها بين فترة وأخرى حيث كان نشرها منجما، حتى تواصل نشرها بدءاً من العدد (55) لشهر شعبان 1402هـ وحتى العدد (277) لشهر صفر 1421هـ على مدى يقارب تسعة عشر عاماً وبلغت زهاء مائتين وعشرين سانحة.
وقد كان الشيخ حريصاً على متابعتها وتصحيحها وتدقيق أسمائها وتوثيق تواريخها وقد كنت أرسل لـه كثيراً من الحلقات لقراءتها إذْ كان حذراً أن يقع فيها أي خطأ أو تصحيف.
إن قيمة هذه الذكريات تنبع من كونها رحلة توثيقية عايشها الراحل وعاشها بوهجها وهجيرها، وبخاصة تسجيل بدايات التعليم في المملكة، وصعوباته وانتشار الثقافة والتطور الاجتماعي، وعدم تقبل كثير من أفراد المجتمع لبعض أفكاره وأفكار مجابليه التنويرية، وكان الشيخ حمد الجاسر دقيقاً في الأسماء والتوثيق.
وقد تفاعل معها القراء بشكل لم يسبق لـه نظير، ومن ذلك دعوة سمو الأمير المثقف فهد بن سلطان بن عبدالعزيز إلى أهمية جمع هذه السوانح في كتاب، وجاء اقتراح سموه ضمن خطاب رقيق، وردّ عليه الشيخ حمد بخطاب وعده بذلك.
***
** ذكريات كان لها صداها:
* ومن حلقات الذكريات التي كان لها صدى حلقته عن ((زوجته أم محمد)) – حفظها الله – فقد كانت حلقة تنبض بالوفاء وتثمين جميل لدور المرأة ورسالتها – كما أشرت سابقاً في فصل (تقدير المرأة)، وكان لها ومعها تفاعل كبير من لدن القارئات خاصة. كما كشفت عن الدور البالغ للمرأة وأثرها في مسيرته، وقد كتبت إحدى الأديبات قائلة: (أين للنساء زوج مثل الشيخ حمد الجاسر رحمه الله..).
وهناك حلقات أخرى تفاعل معها القراء في الداخل والخارج وهي الحلقات التي تناولت ((اللغة العربية)) عندما أشار في إحدى الحلقات عن ذكرياته بمجمع اللغة العربية في القاهرة إلى أن بعض أعضاء المجمع أبدى تسامحاً بجواز استعمال بعض الكلمات العامية في الكتابة أو التحدث، ولكن الشيخ وأغلبَ أعضاء المجمع وقفوا موقفاً قوياً دون الموافقة على إدخال أي ((كلمة عامية)) إلى قاموس العربية، ومن ألطف ضروب التفاعل مع هذه الحلقة أن الفنان المعروف محمد الخنيفر شارك في الجدل الذي ثار حولها برسم ((كاريكاتوري)) جميل رسم فيه الشيخ حمد الجاسر – رحمه الله – وهو ممسك بيده ((هراوة)) وقد قدم إلى مجمع اللغة العربية وقابله زميل لـه فقال للشيخ في تعبير لغوي ((كاريكاتوري)): ((ما بالك قد جئتنا مبرطماً مبلماً تحرجم وفي يدك شمحط؟)) – ولا أدري معنى كلمة ((شمحط)) التي أوردها الفنان في رسمه – وأجابه الشيخ حمد قائلاً: ((بل جئتكم مبلدماً وفي يدي شوحط أقوم به ما أعوج من لسانكم)) إشارة منه إلى دعوة بعض الأعضاء إلى إدخال بعض الكلمات العامية ((الرسم مرفق)).
وتظل ((المجلة العربية)) أبداً تذكر صاحب ((سوانح الذكريات)) فالشيخ حمد الجاسر هو من أجل الأسماء التي أثّرت وأثْرت هذه المطبوعة بذكرياته الجليلة، وبفكره المتميز.
ورغم مضي سنوات على رحيله، وعلى توقف مداده عبر ((المجلة العربية)) فإن قراءها وصفحاتها لا يزالون ولا تزال تحن إليه وإلى قلمه رحمه الله.
** الشيخ والتكريم الذي حظي به في حياته:
العلامة الشيخ حمد الجاسر كُرّمَ كثيراً – بحمد الله – وبخاصة في أخريات حياته، وقد كان لي شرف المشاركة في ثلاث مناسبات من مناسبات الاحتفاء به منها: مناسبتان داخليتان والثالثة في مناسبة عربية، الأولى في إدارة لها، والثانية في إلقاء كلمته فيها نيابة عنه، والثالثة نائباً عنه.
أما الأولى: فكانت تكريم ((الجنادرية)) لـه عام 1415هـ بوصفه((رجل الثقافة)) لذلك العام، وتشرفت بأن بإدارة الحوار في تلك الليلة التكريمية التي اشتملت على ندوة كبيرة تناولت آثار وعطاءات الشيخ ، وقد شارك في أوراقها كل من الباحثين الأجلاء: (د/أحمد الضبيب ود/ عبدالرحمن الأنصاري و د/ عبدالله مناع و الباحث عبدالله الشايع) وفي نهاية الليلة التكريمية أراد – رحمه الله – أن يعقب على هذه الندوة وكان متعباً صحياً، وقد جاء في كلمته ((جملة)) جعلت دمعة تفر من عينيه عندما قال – رحمه الله:
((يبدو أنكم تودعونني في هذه الندوة، فقد اقتصرتم على ذكر محاسني ،من وحي حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((اذكروا محاسن موتاكم)) وأنتم تودعونني في هذه الليلة))، وفعلاً لم يمض على هذا سوى سنوات محدودة حتى رحل عن دنيانا ولكنه مازال يعمر مدائن قلوبنا وفضاء ثقافتنا. وقد كتبت بعد هذه الندوة مقالة في صحيفة ((الشرق الأوسط)) عدد (5961) تحدثت فيها عن هذه الليلة المؤثرة، وتناولت فيها صبره وعصاميته وكانت تحت عنوان ((مضى الليل والحب الذي لك لا يمضي))، وهذا بعض ما جاء في هذه المقالة: ((لعل الله أراد بتاريخ وآداب وجغرافية الجزيرة العربية خاصة وبتاريخ العرب وأدبهم عامة، خيراً ونفعاً عندما لم يجعل قدر هذا الرجل حمد الجاسر علامة الجزيرة ومؤرخها ورمزها الفكري.. أن يكون مزارعاً بسيطاً يفلح الأرض كما أراد لـه والده في بلدته ((البرود)) بنجد قبل أكثر من تسعين عاماً ولكن ضعف جسده لم يهيئه لذلك.. وأراد الله لـه أن يفلح الأوراق بريشته، ويفلح الأرض فعلاً ولكن ليس بمحراث الحديد، ولكن بقلم المداد!.
فهذا الرجل الذي حرم من حنان أمه بعد وفاتها – رحمها الله ورحمه الله – وكان ابن سبع سنوات عند وفاتها.. بل حُرم منها في أشهره الأولى عندما خرجت مغاضبة من بيت والده، ولكن والده استرضاها بـ (قطعة قماش)، فعادت إلى منزل زوجها لتكون بجانب صغيرها. لكنها توفيت بعد سنوات ثم لحق بها والده فظل يبحث عن حنان أم أخرى ألا وهي ((الأرض))، فكان قدره أن تكون حضنه، وكان قدرها أن تكون أمه فحنا عليها وحنت عليه ((حنو المرضعات على الفطيم)) إذ صادق أحجارها، ورافق أشجارها، وأنس بجبالها فسعد معها، وعرّف بها، والتفت إلى تاريخها فجلاّه وإلى رجالها الغابرين فعاش حتى أخرج كنوز هذه الجزيرة العربية وبلورها ونشرها، وأظهرها حتى استوت على سوقها.
لقد جاب حمد الجاسر الأقطار، ورحل إلى كافة الديار، ليس من أجل امرأة يتزوجها، أو مال يظفر به، بل من أجل مخطوطة يحققها أو كتاب يسعد بنيله.
إن حمد الجاسر، كان في ليلة تكريمه، الرجل الزاهد المتواضع.. وكأنه طوال التسعين عاماً التي حملها على ظهره بكل ما حملت من عطاء وعلم وتحقيق .. كأنه لم يقدم شيئا.. لم يصنع شيئا.. وذلك – لعمر الحق – شأن العظام أبدا.
إنني لم أكن محرجاً وسعيداً، في الوقت ذاته، مثلما كنت في ليلة تكريمه وأنا أتشرف بإدارة تلك ((الاحتفالية الزاهية)) المورقة وفاءً المخضرّة عرفانا.. تلك التي كانت بادرة موفقة من ((المهرجان الوطني للتراث والثقافة)).
لقد كان حرجي في إدارة هذه المناسبة التاريخية للشيخ الجاسر هو في مواجهة ذلك المطر الغامر من عطر الكلمات والتعقيبات التي أراد أن ينشر بعض عبقها أولئك الأوفياء من حضور ((ليلة تكريم الجاسر))..ومثلها تلك الاستفسارات والتعليقات المكتوبة..وكان الوقت المخصص للندوة قد تجاوز الوقت المحدد لـها بساعة كاملة، إذ الساعة وقتها تجاوزت الحادية عشرة، وبناءً عليه تم الاعتذار عن تلك الكلمات والمداخلات والاستفسارات التي هي بالتأكيد إثراء لهذه الندوة، وترسيخ لهذا الوفاء.. خاصة أن بعض راغبي المشاركة رموز ثقافية من خارج السعودية، بل أغلبهم من دول المغرب العربي، حيث أشار أحدهم في ورقته التي بعثها إلى ((المنصة)) إنه جاء ليسهم في تكريم هذا الرجل ((الذي ليس للسعودية أو للمشرق العربي وحده بل هو أستاذ لنا في المغرب العربي))، وكنت قبلها قد طلبت اختصار ورقات المشاركين وهم أساتذة أجلاء.
أما مسك هذه الأمسية التي تعبق وفاءً كخزامى نجد وفل الطائف وتفيض ثمراً كنخيل الأحساء وزيتون الشمال .. مسكها وواسطة عقدها المؤثرة فقد كان تلك الكلمة القصيرة المؤثرة التي ألقاها المحتفى به الشيخ حمد الجاسر في تلك الليلة ، التي شد بها حاضري تكريمه من تلك النخب المثقفة من الوطن العربي ومن مثقفي بلاده. شدهم بتواضعه وزهده، ثم أشجاهم عندما أشار إلى أن مثل هذا التكريم الذي اقتصر على ذكر محاسنه مذكرة بقرب رحيله – كما أشرت آنفا – فهو كما قال – رحمه الله – كأنه نعيٌ لـه مستشهداً بالأثر الشريف ((اذكروا محاسن موتاكم)) فدمعت أعين بعض الحضور وهو يشير بتهدج إلى هذا الأثر، ما ذكرته هنا ليس كل ما دار في تلك الليلة الوفائية النادرة.
الشيخ – رحمه الله – يستحق كل تقدير وتكريم فهذا الرجل الذي لم يكن باحثاً أو مؤرخاً أو أديباً أو رائداً صحافياً بل كان – وهذا هو المهم – ذا ريادة عقلية مستنيرة ومبكرة عندما أقام أول مطبعة في نجد من قوت أولاده، وعندما أنشأ أول صحيفة في قلب جزيرة العرب، وعندما دعا إلى تعليم المرأة في وقت كانت السعودية في بداية تأسيسها، وكانت مثل هذه الريادات التي ربما يعدها أبناء مجتمعه – آنذاك – من الكماليات التي لا معنى لها، ولكن هذا الرجل كان يراها في مقدمة الضروريات والأولويات رحمه الله.
** التكريم الثاني:
أما التكريم الثاني الذي كان لي شرف النيابة عنه فهو تكريم: (جائزة سلطان العويس) في الإمارات العربية المتحدة ومنحه جائزة((المثقف العربي)) لعام 1416هـ، ولقد رفض في البداية الموافقة عليها زهداً – كعادته – في الأضواء، واستجابة لشيمة تواضعه إنساناً وعالماً .. وقد كان لي مع بعض أحبائه شرف إقناعه بقبول هذه الجائزة وفعلاً وافق على ذلك بعد أن أسهمت وآخرون في إقناعه.
ونظراً لظروفه الصحية وقتها كلفني – كواحد من أبنائه – أن أنوب عنه في هذه المناسبة وألقي كلمته، وفعلاً ذهبت إلى ((دبي)) في أجمل مهمة أقوم بها ممثلاً لأستاذي ووالدي الروحي حمد الجاسر في هذه التظاهرة الثقافية العربية المفرحة.
وعلى الرغم من غياب الشيخ عن هذه المناسبة إلا أنه كان حاضراً فقد كانت كل أحاديث الأدباء والباحثين والمثقفين الذين حضروا هذه المناسبة عن جدارته بالجائزة، وتثمين بحوثه وكتبه التاريخية التي قدمها للمكتبة العربية.
** التكريم الثالث:
ذلك عندما كرمته مؤسسة الجزيرة للصحافة والنشر- بوصفه أحد رواد الصحافة في بلادنا ورائد الصحافة بالمنطقة الوسطى فهو أول من أنشأ صحيفة بها – وكان هذا التكريم في حفل انتقال المؤسسة إلى مبناها الجديد، ولم يستطع الشيخ حمد الجاسر الحضور وأعد كلمة ووجهني بإلقائها في الحفل الذي حضره الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذي تربطه علاقة وثيقة به بحكم أن سموه أحد المعنيين بالتاريخ والشأن الثقافي.
لقد كان الشيخ هو الغائب الحاضر في هذا الحفل – مرة أخرى – بوصف الجاسر هو أحد رواد الصحافة في بلادنا ورائدها في المنطقة الوسطى على وجه الخصوص، لقد كنت ألقي الكلمة في هذا الحفل وأنظر في وجوه الحضور فلا أرى (رائد الصحافة) لظروفه الصحفية، وقد تحشرجت الكلمات في حلقي تأثراً بهذا الغياب ولم أستطع حبس عبرات سقطت على الورقة عند ذاك، وقد حاولت حجبها ولكني عجزت وقد لاحظ بعض الحضور ذلك ونشرت مجلة ((اليمامة)) تعليقاً على الموقف.
فضلاً عن أن هناك عدداً من المواقف التكريمية الوفائية بعد رحيله فقد سمت ((مؤسسة اليمامة الصحفية)) – وفاءً منها لمؤسس أول مطبوعاتها – أكبر قاعات مبناها باسم (قاعة الشيخ حمد الجاسر) وكذا فعلت (جامعة الملك سعود) حيث أطلقت اسمه على قاعتها الرئيسة للندوات والمحاضرات، كما أقيم العديد من الندوات التي تناولت بحوثه وآثاره في عدد من مدن المملكة وفي عدد من الدول العربية.
** التكريم الأكبر:
أما التكريم الأكبر فقد تم بعد رحيله – رحمه الله – حيث نهض المجتمع كله – وليس المثقفين فقط – بهذا التكريم .. لقد تمثل هذا التكريم في قيام ((مؤسسة الشيخ حمد الجاسر الثقافية ومركزها الثقافي)) وذلك عندما تنادى المحبون للشيخ من أبنائه ومريديه ومحبيه وفي مقدمتهم سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز فجاء هذا التكريم الخالد بقيام مؤسسة ثقافية تحمل اسمه، وهذه المؤسسة تحتاج إلى حديث آخر من قبل أحد محبيه المنتمين لهذه المؤسسة من مجلس أمنائها أو مركزها الثقافي.
** الشيخ حمد وروحه الطيبة:
قبل أن أختم هذه المحاضرة المتواضعة أمام قامة الشيخ حمد السامقة بشيمة اللطف التي عُرف بها، لأنها نابعة من روحه الطيبة.
لقد كان – رحمه الله – يتلطف مع أحبابه ببعض لمساته، ويؤنس جلساءه ويُسرّي ببعض ((مُلَحه)) عن زواره!.
لقد تنوع مجلسه ما بين حديث جاد وآخر علمي، وأحياناً في نهاية الجلسة يروي بعض المواقف الضاحكة، يطري بها أحاديث الحضور، إذ كان يروي أمامهم بعض ((المُلح)) التي ترسم البسمة على شفاههم، وكان بعض تلامذته يبادلونه بعض الظرف والطرائف مثل تلميذه د/عبدالله العثيمين أو د/ عبدالعزيز المانع أو كاتب هذه السطور.
وأحب أن أختم هذه المحاضرة بما عودنا عليه شيخنا بما جبلت عليه نفسه – رحمه الله – من روح ندية، ومحبة غامرة، نابعة من قلب يسعده إسعاد الناس، و يبهجه إدخال السرور على قلوبهم.
لقد كان – رحمه الله – يتمتع بذات متفائلة – رغم ما مر به من أهوال – ولكن الأيام التي عرفها – ومن الذي عرف الأيام معرفته بها – علمته أن الحياة لا ((تستأهل)) أن يعيشها متجهماً مقطب الجبين- لقد نعم بوهجها واكتوى بهجيرها.
لذا كان يحرص على اغتنام كل لحظات حياته في العطاء، وكان يغتنم لحظات الراحة في حياته – على قلتها – بالأنس بالأحباب لأنه يؤمن أنه ليس في طبع الليالي الأمان.
لكأنه – رحمه الله – عزف على صواري تجاربه:
((وفمي تـذوق صابهـا ورحيقـها
لا الصـاب دام ولم تدم صهباء))
كما قال الشاعر المرحوم مقبل العيسى.
من هنا كان يضفي وشاح الأنس – رحمه الله – على مسامرات مريديه، وحضور خميسيته، وكم أمتعنا – متعه الله بجنته – بتعليقات ونوادر نبتسم لها، ونأنس إليها ، وتضحك قلوبنا قبل أفواهنا من مفارقاتها اللطيفة.
وفي ثمالة هذه ((الوريقات)) أروي بعض المواقف التي عايشت بعضها أو سمعت عنها أو رُويت لي ممن عرفها.
* الشيخ حمد وابن صديقه: ((قيساً أو تيسا)): ذات مرة ونحن جلوس لديه: روى طرفة أضحكتنا كثيراً حيث قال إن أحد أصدقائه رزقه الله بمولود وأبلغه أهله بذلك – وكان مسافراً خارج المملكة ولم يكن الهاتف آنذاك متيسراً – فأرسل أهله برقية يخبرونه بالمولود الجديد، فرد عليهم ببرقية أبدى فيها سعادته بالقادم الجديد ، وطلب منهم أن يسموه((قيسا)) ولكن عامل البرقية وضع بدل ((قيس)) كلمة ((تيس)) لتشابه الحروف، ولما جاءت البرقية استغرب أهل هذا الرجل، وتعجبوا كيف يطلب منهم والده أن يسموه ((تيسا)) وما مدى قبول الابن عندما يكبر لهذا الاسم، وأرسلوا لـه برقية أخرى يستفسرون عن الاسم الصحيح، ورد عليهم بأنه طلب تسميته ((قيساً)) لا ((تيسا))!.
* في دارة العرب ((باي)) بدلاً من مع السلامة: موقف آخر طريف يشير إلى حرصه وغيرته على اللغة العربية حتى مع الأطفال فقد كنا جلوساً لديه في دارته ((دارة العرب)) ذات مغرب، وجاءت إحدى سبطاته تودعه وبعد أن قبلته قالت لـه: ((بابا حمد باي باي)) فقال لها: قولي: ((يا ابنتي مع السلامة)) فردت عليه: ((أوكي بابا)) وضحك الشيخ وضحكنا!.
** الشيخ حمد و ((التنورة)) في مجمع اللغة العربية:
من المعروف أن الشيخ حمد – رحمه الله – أحد أعرق أعضاء مجمع اللغة العربية في مصر، لقد كنت مع الصديق – أحد تلامذته الأوفياء – د/ عايض الردادي في زيارته لـه، وكان الشيخ حمد – رحمه الله – خلال تلك الزيارة مرتاحاً وسعيداً وكان ذلك يعرف عنه إذا ما انتهى من بحث أو كتاب يتعلق بتاريخ هذا الوطن وفي هذه الزيارة روى لنا موقفاً لطيفاً حيث قال: إن مجمع اللغة العربية أراد أن يعرّب [التنورة] التي تلبسها المرأة بكلمة عربية، فعرّب[التنورة] بـ [القُفّة] وهي باللغة العربية: (ما يحمل به) فاعترض الشيخ واعترض بعض الأعضاء من منطلق أن تسمية تنورة] تسمية دارجة، ومن سماها هم أصحابها فضلاً عن أن الاسم البديل [قُفة] غير لائق وبخاصة لمخضوبات البنان، وسوف يكون مضحكاً عندما تقول المرأة لزوجها: ((دعني ألبس القفة أوأذهب لحفلة السهرة بالقُفة إلخ..)) ولكن على الرغم من اعتراض بعض الأعضاء على ذلك – كما قال الشيخ – أصر بعض الأعضاء على هذا التعريب، ثم نشر هذا التعريب في الصحف المصرية، فكان ذلك مجال تندر من الصحافة المصرية، يقول الشيخ: ((ولكن هذا التندّر وجد ارتياحاً عند بعض الأعضاء من منطلق قول بعضهم: المهم أن تذكرنا الصحافة ولا تنسانا في غمرة الاهتمام بلاعبي الكرة، وأسماء الفنانا)).
** طرائف من رحلات الشيخ حمد الجاسر:
أغلب المواقف الطريفة والمحرجة معاً وقعت للشيخ أثناء رحلاته للبحث العلمي وخدمته تاريخ بلاده خارج المملكة.
وفي كتابه: ((رحلات حمد الجاسر)) الكثير من المواقف وقد أورد الأديب يوسف الذكير عدداً من المواقف حيث استقاها من كتاب رحلات الشيخ حمد الجاسر وأتوقف عند ثلاثة مواقف تم نشرها في ((المجلة العربية)):
** الموقف الأول:
((حينما ابتعث ((حمد الجاسر)) للدراسة في مصر عام( 1358هـ/1939م)، فكان عليه أن يبحر بالباخرة من جدة إلى ميناء السويس، ومنها يركب القطار إلى القاهرة. ما إن وصل إلى الميناء المصري بعدما قضى ثلاثة أيام على ظهر الباخرة (الطائف) – إحدى بواخر شركة البريد الخديوي للملاحة – حتى تقدمت نحوه سيدة مصرية، طالبة منه المساعدة في حمل حاجة لها!. وقد دهش الشيخ عندما رأى أن الحاجة قطة صغيرة أخرجتها من بين ثيابها، فما كان منه إلا أن أخذها منها ووضعها في جيب ثوبه تحت عباءته (المشلح). ولكن ما إن طلب منه موظف الجمارك فتح حقيبته، وشعرت القطة الصغيرة بحركته حتى ماءت، فما كان من الموظف إلا أن سأله باستغراب:
إيه يا شيخ العرب في بطنك قطة؟!
فأحرج الجاسر وأخرج القطة وهو يشير إلى صاحبتها المنتظرة على باب الخروج، قائلاً:
لا والله، القطة ليست في بطني وإنما في جيبي.. وتلك صاحبتها.
فما كان من الموظف إلا أن أخذها محذرًا إياه من محاولة إدخال مالا يجوز إدخاله إلا بعد عرضه على المختصين من أطباء ومسؤولي الحَجْر الصحي .. وغيرها من المحظورات)).
** الموقف الثاني:
((حين وصل إلى مصر وبادره أحد الرجال في جمارك مصر قائلاً: مرحبًا يا شيخ العرب.
ولم يكن الرجل مبالغًا في وصفه إذ كان الجاسر مرتديًا ثوبًا ومشلحًا، منتعلاً حذاءً نجديًا موشحًا، ومعتمرًا شماغًا وعقالاً مقصبًا، فسأله الجاسر إن كان مرسلاً من البعثة السعودية لاستقباله، فأجاب بالإيجاب مستفسرًا عن متاعه الذي لم يكن سوى حقيبة ملابس وكيس كان من بين ما حواه من احتياجات الرحلة، جل نقوده، فلما أشار إليهما الجاسر، قال لـه الرجل: سأحمل عنك الكيس واحمل أنت الحقيبة ثم توجها إلى مقهى مجاورة أجلسه فيها وهو يقول:
– اجلس واسترح وسأذهب أنا لإحضار القطار! .
فلما طال الانتظار وطالبه صاحب المقهى أن يدفع ثمن ما تناولـه، أجابه بقوله:
أنْتَظِر لحين عودة صاحبي الذي ذهب لإحضار القطار.
فما كان من صاحب المقهى إلا أن ضحك منه وهو يقول:
يا شيخ العرب، القطار ليــس ســـيارة أو حماراً ليحضره لك، بل لـه محطة يقف عندها.. وعليك الذهاب إليها.. ثم أشار إلى موقع المحطة)).
** الموقف الثالث:
((عند خروجه – رحمه الله – في اليوم التالي من فندق في القاهرة، ليبحث عن حانوت يبتاع منه ما يحتاجه.. فكان أول ما رآه دكانًا تعتليه لوحة كتب عليها (حانوتي الحلمية) .. والحانوتي في اللهجة المصرية، هو من يتولى غسل ودفن الموتى، فلما رآه صاحبه يطيل الوقوف، خرج إليه مرحبًا وهو ينادي على مساعده بقوله: (( يا حنفي، يا حنفي.. أهو جالك زبون .. بس لسه ماشي على رجليه)).
وزاده نفورًا ظهور مساعده شبه عريان وبطنه متدلية إلى منتصف فخديه وهو يقول: ((أيوه يا شيخ العرب.. مستعدين)).
فما كان من الجاسر إلا أن داخلته الريبة فمضى مبتعدًا بأسرع خطى..)).
** وأخيراً كاتب التاريخ يكتبه التاريخ:
قبل أن أودعكم دعوني أختم بتلك الحروف التي كتبتها عنه عند وداعه لهذه الدنيا تحت عنوان: (كاتب التاريخ يكتبه التاريخ) قلت فيها: هي مرات قليلة التي أجد فيها القلم يهزم رغبتي وحاجتي إلى الكتابة رغم طول العشرة معه ومعها. وهذه إحدى المرات التي أحاول فيها أن استنجد بقلمي ليخفف من لوعتي على فراق والدي الروحي حمد الجاسر. لقد كنت أتأثر وأتألم عندما لا أستطيع زيارته ورؤيته عندما كان في المستشفى، فكيف الآن وقد غاب عن دنيانا وسكن باطن الأرض بعد أن كان على ظهرها، ورحل عن سطور محابرنا وصفحات كتبنا ولكن بقي في قلوبنا.
إن حالتي الآن كحالة الشاعر الذي هزمته قافيته عند رثاء أحد الغالين عليه فقال :
((ومـا قـصـّرت في فـزع ولكن
إذا غـلب الأسى عـزّ الـبـكـاء))
أجل.. إذا غلب الأسى عز البكاء وعزّ الحرف وعزّ الكلام.
هذا الراحل الذي كتب التاريخ، وعشق التاريخ، ها هو يكون سطراً من سطور التاريخ الذي أملاه وكتبه.
وما أجمل وأصدق ما رثاه به الشاعر المعروف أ. أحمد صالح الصالح (مسافر) عندما قال في قصيدة مثرة بعد رحيل الشيخ:
حبيب شماريخ الجبال أمينها
على سرها يبكيك سار وسارب
أقمت بنا عمراً حفرت سنينه
بأحد أقفار واستبطنتك الترائب
ويبكي عرار في العشيَّات هاضب
وتبكيك روضات (الخزامى) حبيبنا
ولا تنقضي في محتواه العجائب
حياتك سِفْر لا يغيض معينه
ويبكي نديّ للنهى وعصائب
وتبكي ((برود السر)) أهلاً وجيرة
وعراب ناديها ويبكيك صاحب
مجامع أهل الضاد تندب شيخها
على موعد للحب أنك آيب
أباهم إلى أين الرحيل وجمعهم
***
** وبعد:
إن عزاءنا هو الاحساس بأن الشيخ حمد الجاسر لم يرحل عنا.
وكيف يرحل وهو الذي أبقى هذه الأسفار الخالدة التي كتبها عن هذه الأرض ومستأرضيها؟!.
كيف يرحل وهو الذي دوّن التاريخ حتى صار في واحدة من أنصع صفحاته.
كيف يرحل وهو الذي أبقى هذه الآثار من عطائه وأسفاره.
ألم يقل الجواهري:
((الـخـلـد عـمـر المبدعـين
وليـس لباقـي الـنـاس عـمـر))
الشيخ حمد الجاسر الذي عشق الأرض ودياناً وجبالاً وتراباً وأشجاراً ها هو يعود إلى أمه الأرض الذي كان من أكثر الناس وفاء لها، وإيفاء لحقها وحبا لميراثها وتراثها.
((كبير بعدك الحزن)) يا شيخنا ووالدنا ورائدنا ولكنها إرادة الله التي قضت برحيل كل إنسان صغيراً أو كبيراً عظيماً أو حقيراً عالماً أو جاهلاً.
هنا أتوقف عن كلمات رثائي عجزاً وانهزاماً أمام رحيلك، واستجابة لرغبتك التي كنت تبديها لمحبيك في الفترة الأخيرة ألا وهي البعد عن إطرائك والحرص على الدعاء لك، وكانت هذه آخر وصية تلقيتها منك في آخر رسالة وصلت إليّ.
** وبعد:
أعرف أنه من الصعب الإحاطة بكافة جوانب وذكريات الشيخ حمد ولكن(بعض الربيع ببعض العطر يختصر) كما قال الشاعر عمر أبو ريشة وإذ كنا نأنس بأحاديث شيخنا خلال حياته فها نحن نأنس معه بعد رحيله، وأجزم أن الحديث عنه ومعه لا ينتهي -رحمه الله- ولعلني أجعل ((المتنبي)) يعبر عني وعن محبيه ومحبي الحديث عنه:
((مضى الليل والحب الذي لك لا يمضي
ونجواك أحلى في العيون من الغمض))
أجل أحلى من الغمض.. وإذا كنا –نحن أبناءك وتلامذتك– لا نستطيع أن نرد تحيتك التي امتدت على مدى تسعين عاماً بأحسن منها فلنرد عليها بمثلها على الأقل –رحمك الله–.
رحم الله الشيخ حمد الجاسر ثواب ما قدمه لوطنه وتاريخه وحضارته وجزاء ما قدم لأمته العربية ومكتبتها وأبنائها وباحثيها وأسأل الله كما جمعنا به في الدنيا على محبته أن يجمعنا معه بدار كرامته في جنة المأوى.