14
أكتوبر
دمعة عليك يا أبي..!
حمد بن عبدالله القاضي
in مقالاتي
Comments
■■لكم أحس أن حروفي عاجزة عن تجسيد دموعي الحرَّى.
لكم كان هذا القلم مطواعا بين يدي.
مالي أراه – الآن – كسير الجناح .. عاجزا غير قادر على بلورة تلك المشاعر التي تتلظى بين ثنايا قلبي ..!!
هل القلم يحزن كما يحزن البشر ..!؟
هل الحروف تعرف – هي الأخرى – مرارة الألم .. ولظى المفجوعين … ونار اليتم!!
لا أدري..!
ولكني – يا أغلى الناس – بعد موتك ..أحسست أن أشياء. كثيرة ماتت في نفسي.. ترمدت في أعماقي..!
قبرك وقلبي …!
جميعها سكنها الموت.. وغطًاها التراب معا.
***
■■ يا أغلى الناس ..!
عندما جاء نعيك إلي عبر الهاتف المشؤوم .. حَمَلت النعي "عبارة" أحس الآن .. أنها جمرة تتوقد في سمعي:
"والدك يطلبك الحل" !
هكذا – ببساطة – تطب الحل – يا والدي – تموت .. تغادر الدنيا .. ترحل من قلبي إلى قبرك .. كأنك مسافر وستعود .. لا أنها "رحلة أبدية".. ولكن إلى جنات النعيم بإذن الله..!
آه .. ما أقساك – أيها الموت – !
كيف لمشاعرنا الرقيقة أن تتحُمًل قسوتك.. وتستسلم لا تنهار وأنت أخذ من أحداقنا أعز الناس .. ومن حدائقنا أوفر الزهور حبا وحنانا ..!!
يا رب رحماك ..!
فلو لا الإيمان بك, والرجاء فيك, والعزاء بالأمل بلقياك ثم لقاء الراحلين عنا بالدار الباقية لظللنا نندب أحبابنا .. ونبكي أمواتنا آناء الليل وأطراف النهار..!
لكنه الإيمان بك وبقدرك "كل نفس ذائقة الموت" ذلك يمنحنا راحة الاطمئنان..
***
■■ أبتاه .. يا أعز الناس ..
مشهد رهيب لا تستطيع مشاعري اعادته عندما كنت في "المقبرة".
كنت أراك – يا أعز الناس – وأنت توضع في قبرك .. في مثواك الأخير .. ينزعون عنك لباس الدنيا .. هربت – يا أبي من المشهد – لم تستطع قدماي أن تحملني .. وأنا أرى التراب يُهال على قبرك .. لتكون تلك هي النظرة الأخيرة.. وما أقساها من نظرة ..!!
لكن ..
كم هي رحمة الله واسعة.. فلولا النسيان.. نسيان الموت.. نسيان ذلك الموقف الرهيب الذي ما حسبته يرحل عن مقلتي وأنت تغادر قلبي إلى قبرك .. لولا هذه النعمة لظللت على قبرك باكيا أبداً, ولكن رحمة الله واسعة.. فالله الذي أخذ هو الذي أعطى.. ورحمة الله قريب من المؤمنين..
***
■■ أبتاه .. يا أعز الناس ..
كلمات العزاء التي كنت أقولها وأسمعها وأرددها خلال سنواتي الماضية لم يكن لها ذلك الوقع وأنا اسمعها عزاء فيك,, وتعزية بفقدك.. كان لوقع كلمات "عظم الله أجرك.. وأحسن الله عزاءك أمر آخر.. أشد حزنا .. فأنا أعزًى في أعز الناس .. و أواسى في فقد أغلى الناس..!!
قبلك – يا أبي – رحلت "أمي".. وبقي رحيل حنانها حرمانا مقيما بين أضلاعي.. لكن لم أكن أدرك وقتها .. كنت "ابن ست سنوات" .. وصدّقت – وقتها – أنها قد سافرت إلى (مكة المكرمة) لتحج وتأتي لي بهدية.. وبعد سنين عرفت أنها لم تسافر إلى مكة بل هي قد غادرت قلب طفلها إلى دنيا أخرى.. فلم تعد – كما قالوا لي – ولم تأت لي بهدية..!
***
■■ الموت – هو الحقيقة الكبرى – في هذه الحياة.. كل الحقائق قد يشوبها الشك.. وقد يتلبسُها زيف الشكل .. لكن الموت يبقى الحقيقة الصارخة.. يظل اليقظة في نوم الحياة.
يا رب .. كل شيء هالك إلا وجهك فارحمنا برحمتك.. واجبر كسر قلوبنا عندما تتكسر في صدورنا بفقد بعضها من الساكنين فيها, والمقيمين بين حناياها..
يا رب عند فقد الغالية علينا ترحل حكمتنا .. ولا يبقى سوى حرارة دموعنا.. اللهم إننا لا نسألك رد القضاء ولكننا نسألك اللطف فيه.
***
■■ "أبي" يا ساكنا بين خفقي وقلبي..
لأول مرة – أحس انك لا تسمع ندائي لك "يا أبي".. لأول مرة لا ترد عليّ بعبارتك الودودة "سَمٌ".. كم هو مفجع أن أحس – الآن – أن هذا النداء لك صوت بلا صدى.. غيم بلا مطر.. جواد بلا صهيل.. شفة غابت عنها البسمة..!
ليس من عادتك إلا أن تجيب ندائي.. ما لك هذه المرة لا تجيب..؟! وأنىَّ لك أن تجيب النداء وأنت – الآن – تحت التراب في قبرك الذي أسأل الله أنه قد أصبح روضة من رياض الجنة..
***
■■ لو استطيع – يا أبتاه – ..
لفديتك بالأغلى من عمري.. بالأجمل من سنواتي .. بالأزهى من شبابي.
ولكنها "إرادة الله" وحسبنا بها رضا وتسليما.
أحسك – يا أبي – تفترش قسمات وجهي كل صباح صباحا حانيا مضيئا كوجه الصباح.
لقد افتقدتك نداء حبيبا حميما – عند كل صلاة – تدعو إلى خير العمل.. تحثنا على أداء الصلاة.
من سيذكَرني بصلة الرحم, وأنت إلذي كنت توصيني بالرحم صلة له, وحرصا عليه..
لكم أشعر أنني مسكون بالحنين إليك وإلى ندائك .. كم عذب هو نداؤك..!.
غياب هذا النداء عذاب لا منجى منه إلا بعذوبة ذكر الله، وراحة الإيمان به.
***
■■ أبتاه..
عزائي فيك – وما أصعب العزاء فيك يا أغلى الناس – عزائي فيك بعد الرضا بتدبير الله وحكمه – هي تلك المشاعر الصادقة الحبيبة من أولئك الأحباء، الذين هزمتني مشاعرهم مثلما هزمني فراقك، وأبكتني مواساتهم كما بكيت لرحيلك .. لقد كانت تلك المشاعر عزاء عندما عزّ العزاء.. وارتياحا لذلك القلب الذي كان متعبا.. متعبا جدا..!
كم انهزمتُ أمام تلك المشاعر.. أحسست أنني ضعيف أمامها وهي تنساب في قلبي وبين أحداقي جداول من الوفاء.. وأنهاراً من المواساة.. وبحاراً من الحنان..!
سألت نفسي: لو فقدتُك في مجتمع لم يرضع أفراده من الكبار والصغار لبان الوفاء.. كيف لي احتمال فجيعة موتك، ووجع رحيلك.. كم أنا مدين لتلك القلوب التي احتضنني حنانها، وطوقت جوانحي مواساتها.
وحسبي – أيها الأحبة – اعترافاً بجميل فضلكم أنكم ملأتم "بمواساتكم" سلالي طمأنينة بعد أن كانت تفيض شجنا.
لك الرحمة – يا أبي – ولي ولكل قلب عاش مرارة اليتم – خالص العزاء ولكل القلوب الوفية صادق الوفاء.
.. ولنا الله جميعا.. لنا الله الحي الذي لا يموت.