خمسـون
*شعر د: غازي القصيبي
**إلى (س) رفيقة الرحلة مع حب الخمسين!
■ ■ ■
■ ■ لعل الراحل الغالي وصل في هذه القصيدة إلى أصدق وأوثق حقيقة آمن بها عندما أرسى شراع عمره على شاطئ “الخمسين” من بحر عمره.. تلك الحقيقة هي زهده بالدنيا وأمجادها فقد قال في آخر بيت فيها:
“اُتخمت من زهرة الدنيا وزخرفها
ولم يعدْ لي – سوى أُخراك – لي طمع”
لقد بعثها إليّ بخط يده واستعجل نشرها واعتقد أنه كان وقتها بلندن، تم نشرها “بالمجلة العربية”، وكان لها صدى كبير فقد حظيت بمعارضات عديدة من عدد من الشعراء السعوديين والعرب.
كانت هذه القصيدة: رسالة بالغة فهو رغم كل ما حققه من شهرة، وما أحاطت به من أضواء تجسَّدت له الحقيقة الناصعة التي وصل إليها وتماهى معها عند قاربه الخمسيني.. نسأل الله أن يكون نال في أُخراه ما تطلع إليه في دنياه.
■ ■ ■
خمسون.. تدفــــعك الرؤيا فـــــتندفع
رفقاً بقلبك كاد القـلـــــــــــب ينخلــع
من الفيافي التي آبارهــا عــــــــطش
إلى البـــــــــحار التي شطآنها وجع
وأنت في أذرع الإعــــصار متــــــكئٌ
على الرياح فما ترسو ولا تــــــــقع
خمسون ما بلغ الساري ضحى غـده
ولا الغــــــــيوم التي تخفيه تنـقشع
أما تعبتَ؟ فإن القــــوم قــــد تعــبوا
ألا رجعت؟ فإن القوم قد رجــــعوا
هلا استرحت؟ فأقران الصــبا هدأوا
هلاَّ غفوت؟ فأنضاء السرى هجعوا
■ ■ ■
خمسون صُبَّت لك الأقــداح مترعةً
ونادمتك فأنت الـرّيُّ والشـــــــــّبع
أعطتك ما أمتلأت عين الطموح ب
وما تمنّاه في أوهامه الجــــــــشع
ساقت لك القمة الشــماء طائعـــــة
وأنت منها علـى الآفــاق تطــــــَّلع
حينا وعادت كما انقض العقاب على
صـــقر فكاد جـــناح الصقر ينتزع
تلَّتك من شـــاهق للســـــــفح عابثة
وخلفتك جريحاً ضـــيفك السَّــــــبع
■ ■ ■
خمسون..في وصلها صدّ إذا سمحت
وفي الصــــدود وصــال حين تمــــتنع
وأنت غرٌّ بريء في حــــبائلهــــــا
ما زلتَ بالصـــدِّ أو بالوصـل تـــنخدع
خمسون.. نادت لك الأصحاب فاحتشدوا
وحــبّبتك إلى الأعـــداء فاجتـــمعـــوا
فأنت ما بين حب غيثــــــه غدِقٌ
وبين بغضـــــاء منها النـــار تـــندلع
■ ■ ■
فان مررتَ بطرفٍ ومضــــــــه شررٌ
واساكَ طرف على ايماضهِ المــــــتع
وإن شرقت بدمـع مسّــــه فرحٌ
وإن صــــــفا لك حــلمٌ غاله فــــــزع
■ ■ ■
خمسون.. تحمل جرح الناس يا رجلاً
جراحه من عذاب الكون ترتـضــــــع
أعطيتهم من كروم الروح ما عجزت
عند الكرام فهل ساغوا الذي كرعوا؟
وهل تراهم وقد سامرتهم طربوا؟
وهل تراهم وقــــد غنيتهم ســـمعوا؟
■ ■ ■
خمسون.. ما مرّ يومٌ دون معركة
أما تولاَّك في أحضـــانها الجــــزع؟
خمسون ما مرَّ يومٌ دون جرح هوىً
ألم يُمزِّقْ حشاك الوجـدُ والولع؟
خمسون.. ما مرَّ يومٌ دون أغنية
أما سئمت القـوافي وهي تصـطرعُ؟
خمسون.. دبّت إلى الفودْين فاشتعلا
وأحرقت الرأس فيه الشيبُ والصّـَلعُ!
وأنت ما زلتَ طفلا في مباذله
فأين مــنك الوقــــار الحلـو والورع؟
ما رفرفتْ نظرةٌ إلا وعاجلها
شــوق يمـــزِّقُ أضـــلاعـاً ويقــــتلـع
لكلّ شقراءَ أو سمراءَ متَّسعُ
فـــيا لقـــلبك ما يحـويٍ وما يســـــعُ!
■ ■ ■
يا ربِّ! في نصف قرنٍ ما يُردُّ به
رشـــــد الغــوّى وما يهدي وما يزعُ
يا ربِّ! ويليَ من يوم جمعت له شتىَ
الذنــوب ويَلقـــى الناس ما جــمعوا
أُُتخِمتُ من زهرة الدنيا وزخرفها
ولم يعــد بســوى أُخراك لي طــــمع