حمد القاضي.. أيقونة العمل الثقافي .. وابن النخيل العذب والقوافي.
ملاك الخالدي
جوف مضيء
من بين النخيل النحيل، وعلى التراب الندي الجليل، تحت ظلال الأغصان الممتدة بعيداً، والمتعانقة عميقاً ، ارتسم وجه الظِلال في المدى وامتلأت جداول المياه بالرهافة والشذى.
هناك في حوائط عنيزة الخضراء المتسعة اهتزت الأرض فانفلق ضوء الأستاذ حمد القاضي، ممتلئا بعذوبة المعاني والمفردات، مبتكراً سحائبَ من شعر و فكر، وراسماً واقعاً وإرثاً حافلاً من العمل الأدبي والإعلام الثقافي.
سحائبه التي بقي أثر غيثها في عقول وأرواح جميع المهتمين بالعمل الإبداعي والثقافي، بل أن أثرها ينمو كلما امتد الزمان ونَضج الإنسان.
قبل أسابيع كانت لدينا في منطقة الجوف ندوة حول “دور الإعلام الثقافي في التنمية الفكرية والثقافية”، وكان رمز العمل الثقافي الأستاذ القاضي حاضراً في ذهني حين إعدادي لورقة العمل، و وددتُ لو أتحفنا بشيء من تجربته الثرية العميقة عملاً وأثراً و امتداداً، لكنّ تباعد المكان وهدير الوقت المتسارع حالا دون التنسيق لذلك.
ولعل حضور الأستاذ القاضي في ذهني حين إعدادي لمحور الإعلام الثقافي ودوره في التنمية الفكرية، يعود لثلاثة أمور:
أولها: حضور وتأثير المجلة العربية على الإعلام الثقافي في المملكة العربية السعودية بالعموم، وعلى ذائقتي الأدبية واللغوية في سن صغيرة ومبكرة بالخصوص، فهي المجلة الثقافية الأولى التي طالعتُها منذ طفولتي وكان القاضي رئيس تحريرها آنذاك، وشعوري الدائم بالامتنان لهذه المجلة الزاخرة برصين المواد وعذب المداد لدورها في تهذيب لغتي وبعث قصيدتي وصقل فكرتي.
ثانياً: انبهاري بعذوبة مدينة عنيزة، التي جمعت جمال الحوائط الخضراء واتساعها، وعراقة الحضارة وامتدادها، فلقد عشت فيها سنةً كاملة فانهمر شعري وشعوري، كنت أتجوّل في حوائطها وأشعر بارتياح مهيب حتى أخالني نخلة أو شجرة برتقال أو جدول من الماء الزلال، والقاضي أحد وجوهها الثقافية المرسومة في فضاءاتها الخلابة.
ثالثاً: عنيزة مدينة ولّادة للثقافة السعودية، فالعديد من أبنائها من رواد في العمل الفكري والثقافي والأدبي، فلقد أنتجت العقول والوجوه التي رسمت ملامح أفكارنا ولغتنا وتمكنت من ذواكرنا جميعاً.
والقاضي ابن النخيل الجليل والمفردة العذبة الهاطلة كغيث والفكرة المُنسابة كشمس، لقد أرسل فيوضاته في الآفاق عبر المقالات والندوات والحضور المتجدد في سائر أنواع العمل الثقافي، فأينع غرسه في عقول الكثير من حيث لا يحتسب، فلقد مضى ماطراً في فضاء الفكرة والكلمة بانتماء شديدٍ للأدب والضياء والبهاء، فكان طريقه مُشرقاً للعابرين والقاصدين والمُهتمين.
والقاضي يُعد رائداً للإعلام الثقافي السعودي بلا منازع ولعل ذلك يتجلى في ثلاثة أمور:
١/ تأثيره واستمراريته و تجدده الدائم، فالريادة لا تقاس بالأسبقية فقط بل بالأثر ومداه، والاستمرار وفحواه، فمنذ قرأناه في المجلة العربية حتى تواجده الدائم في المحاضرات والشاشات وصولاً لنشاطه النوعي في منصة (إكس)، مُناقشاً أبرز المواضيع و طارحاً أنصع الأفكار أدباً وثقافة ومجتمعاً وتاريخاً وأحداثا.
٢/ لغته الثقافية المؤثرة ، فالقاضي يستخدم لغة عربية رصينة من غير تكلف، لغة يفهمها المتابع العادي ويستعذبها المختص والمثقف، فهو صاحب تجربة جليلة تنداحُ لغةً أدبية اجتماعية متدفقة ، كجدول ماء عذب في أحد حوائط عنيزة البهية، وهذه اللغة نفتقدها في عالم الإعلام الثقافي اليوم.
٣/ موهبته الأدبية العالية ، فهو يحيل الأفكار والأحداث إلى جنائن من نخيل و ليمون، حين يمزجها بالقصيد والحكايا والمأثورات، فهو يُحيل الأعاصير إلى أزاهير، و يجعل من المواضيع الشائكة بساتين من اخضرار، يرتادها الدالف بكثير من الارتياح و لا يذرها إلا وقد أفاد واستفاد.
وهنا يكمن ذكاء الإعلامي رصين الثقافة ، عميق الأدب، شديد اللباقة .
لذا استحق الأستاذ حمد القاضي ريادة الإعلام الثقافي، لأنه تمّلك ناصية التأثير، فهو مؤثر فاخر اللغة والأسلوب والفكرة والأهداف، امتلك أدوات الثقافة والإعلام بجدارة، فكانت خطواته ذات أثر دون إحداث ضجيج ، والأثر أعلى صوتاً وأشد بقاءً.
القاضي مدرسة لكل الإعلاميين في مجال العمل الثقافي والأدبي، لذا أتمنى على هيئة الأدب والنشر والترجمة، والهيئة العامة لتنظيم الإعلام، الاستفادة من شخصيته الثقافية وتجربته الثرية ليكون فارساً لعدد من الندوات و ورش العمل لتطوير ممارسي العمل الثقافي والصحفي وتحسين جودته.
ومن هنا أقترح على الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بعدم الاكتفاء بإلزام كل من يمارس العمل الإعلامي بإصدار تصريح فقط بل النظر إلى كفاءة هذا الإعلامي وجودة ونجاعة مايقدمه، فالبعض قد يهوّن أو يُميّع من مكانة الإعلامي أو يحط من قيمة صناعة الإعلام، أو يقدّم محتوى رديء أو يوجهه بشكل سيء أو مُضر أو خاطئ، وفي تجربة الأستاذ حمد القاضي مثال عال ومتفرد على تكامل عناصر الإعلام الثقافي وجودة أدواته ويجدر الاستفادة منها كما أسلفت.
حان الوقت لإعلام ثقافي مناسب للحراك التنموي الذي يعيشهُ الوطن ، إعلام يصنع مجتمعاً مثقفاً ، مفكراً ، واعياً و متطلعاً و مشاركاً في النهضة والنماء ، في ظل رؤية ٢٠٣٠ المضيئة.
*شاعرة وكاتبة
منطقة الجوف
مجلة اليمامة- العدد 2823- السنة الرابعة والسبعون- الخميس 25 صفر1446هـ – الموافق 29 أغسطس 2024م