16
أكتوبر
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ..! (1)
حمد بن عبدالله القاضي
in مقالاتي
Comments
(1)
نادرة تلك المواقف التيتمتزج فيها البسمة بالدمعة ..!
يورق فيها شجر الحزن .. ويكبر حزن القلب .. يختلط فيه نشيد الفرح بنشيج الشجن .. والإنسان يعيش هذا الموقف في مكان محدود .. وفي زمان محدود .. وفي لحظات مشهودة..!
ولقد عشت هذه الحالة مرتين وفي ذات المكان .!
أما الزمان فمختلف..!
أما المكان فهو مدن الأندلس غرناطة وقرطبة وإشبيلية ..!
ولن أكون في هذه الكلمات نائحة ثكلى .. أو "خلوجاً" مكلومة .. فلقد غزلنا – نحن العرب من الدموع خياماً .. فما أعادت لنا عزاً .. ولا رفعت عنا ذلاً..!
إنني فقط سأسطر مشاعري وأنا أزور هذه الديار كعربي مسلم "أكل الحزن من حشاشة قلبه" .. ولابد – أحياناً – من شكوى إلى من يتقاسمون معك رغيف تاريخك ودم أشجانك, فقد تجد في الشكوى تسرية أو سلوى .
ها هي ذي الأندلس ..
وسنوات لا تنسى .
ما بين دخول عبدالرحمن الناصر إلى الأندلس بنخلته العربية، وشموخه الإسلامي , وما بين تسليم عبدالله الصغير مفاتيح "غرناطة" آخر معاقل المسلمين في أوروبا إلى ملكي قشتاله النصرانيين بعد ثمانية قرون من الحضارة التي زرعها العرب المسلمون إخضراراً, وعدلاً ومجداً..!
***
** كانت الخطوة الأولى ..
في قصر الحمراء .. حيث كان اللقاء الأول .. اللقاء مع الحضارة العربية الإسلامية الشامخة .. قصر الحمراء بكل شموخه وعظمته وتاريخه .. يستقبلك وأنت العربي الذي لا تملك أمته إلا الماضي الزاهي، والحاضر الحزين، والمستقبل المجهول ..ّ
و"لا غالب إلا الله" ..!
تراها منقوشة على الجدران ..
تجدها محفورة على جدران النوافير .
تعانقك وأنت ما بين الغابات والممرات ..
أجل.
"لا غالب إلا الله".
وكأني أحسست وأنا أقرأها أن أولئك الأجداد عندما كتبوها أرادوا بها أن نرددها ونحن نزور آثارهم بعد أن ضاعت منهم .. و"لا غالب إلا الله" تجيىء بلسم عزاء .. وسطر مواساة..
هائنذا في قصر الحمراء ..
أتجول بين أفنيته .
ها هي ذي ساحة العدل حيث نشر المسلمون العدل, فلم ير العالم حكماً أعدل من حكمهم – كما قال أحد أدباء الغرب – ها هو "بهو الأخوين" حيث الأخوة الصادقة قبل أن نعيش في زمن عربي صعب يغدر فيه الأخ بأخيه.. وها هي "ساحة الأسود".. الأسود من موسى بن نصير إلى طارق بن زياد إلى عبدالرحمن الداخل ..
وهائنذا أنظر إلى تلك الهندسة العجيبة في طريقة جريان الماء حيث لا إمكانات فنية ولا تقنية موجودة, ومع ذلك بقى تنظيم وتوزيع الماء عملاً رائعاً بلفت الأنظار حتى يومنا هذا..
وها هي "جنة العريف" في قصر الحمراء التي لم أر أبدع ولا أجمل منها حيث زُرعت ونسقت بطريقة رائعة لا تملك إلا أن تترحم وأنت تتجول فيها على أولئك الذين بنوها ونسقوها وزرعوها..
وعندما خرجت من قصر الحمراء لم أملك دمعة فرت من محجر عيني بعد أن حبستها طويلاً .
ومع تدحرج هذه الدمعة يتدحرج من ذاكرتي أبو عبدالله الصغير, الصغير فعلاً وتاريخاً عندما سلم مفاتيح غرناطة المدينة الرائعة إلى النصارى عام (897هـ)وظل يبكي بعدها ليستمر نهر الدمع العربي متدفقاً حتى يومنا هذا , ومنذ نهرته أمه بكلماتها الشجية "ابك كما تبكي النساء ملكا لم تحافظ عليه كما يحافظ الرجال".
آه ..
يا أبا عبدالله الصغير ..
ماذا فعلت بنا .!
لو تعلم أن ذلتك أمام أعدائك كانت بداية مسلسل الذل العربي..!
آه..
يا أبا عبدالله الصغير..
كيف فعلت فعلتك هذه ..
يا أيتها "المرأة الملتحية" كما أطلق عليك أحد المؤرخين في لحظة غضب, أو لحظة شهامة .. أو لحظة حزن..!
***
** وماذا بعد الحمراء..!
ها هي "قرطبة" بجامعها العربي التي خرَّجت العلماء والأدباء .. ها هو جامعها الكبير الذي كانت كل ساحته تمتلئ بالآلاف من الركع السجود.
ها هي حلقات العلم والكتاتيب .. وها هم طلاب العلم والأدب يفدون من أقطار الدنيا لينهلوا العلم والحضارة والقيم من هذه الجامعة الإسلامية الكبرى ..!
***
** وماذا عن جامع قرطبة الآن..!
ها هي أجزاء كبيرة منه تتحول إلى "كنائس" ترفع الأجراس بدلاً من الآذان .. وتمتلئ بالقسيسين بدلاً من العلماء ..!
ولمثل هذا يذوب القلب من كمد..!
وماذا في قرطبة أيضاً..؟
ها أنت تتذكر شاعرها "ابن زيدون" صاحب "ولادة بنت المستكفي" وذلك الحب العفيف الظامي الذي فجر نبع الشعر في إحساس ومشاعر ابن زيدون فكان ذلك الشعر الذي يتغنى به العشاق كلما مسهم طائف من الهوى أو لذعهم حارق من الجوى..كأنك وأنت في قرطبة ترى ابن زيدون يغني على مسامعك :
أضـحى التنائـي بديـلاً عن تـدانـيـنــا
وناب عن طيب لـقيـانا تجـافـيـنـا
غيض العدا من تساقينا الهوى زمنـاً
فدعوا بأن نغص فقال الدهر آمينا
لا تـحـسبـوا نـأيـكـم عـنا يغــيـرنــــا
إن طـالـمـا غـير الـدهر الـمـحـبـينا
وها هي "ولادة بنت المستكفي" الأميرة العربية, والأدبية الرقيقة, والفاتنة الجميلة تسهم في نشر العلم.. وتفتح أبواب بيتها ليصبح منتدى يلتقي فيه الشعراء, ويتباري الأدباء .
***
وهل انتهت الأمجاد, وبعبارة أكثر دقة آثار تلك الأمجاد التي بناها الأجداد..!
لا .. إنها لم تنته.
ولحديث الشجن بقية في العدد القادم .
***
●أحلى الشعر