16
فبراير
الغربة: شوق ممض وضني مثير..!
حمد بن عبدالله القاضي
in مقالاتي
Comments
أسراب الحمام بكل براءتها تفرد أجنحتها لتعود إلى أعشاشها..!! والبشر كما أسراب الحمام يصهرهم الشوق.. ويدمي جوانحهم الحنين عندما يبتعدون عن مرابعهم.. ومواطن أحلامهم.. وحنانهم.. ودموعهم وابتساماتهم.
(ودموع الغربة)!! ليست وليدة العصر (العشريني).. وهي بالنسبة للعربي ارتبطت بأدق مشاعره لأن قصة العشق بينه وبين صحرائه قديمة، قدم حشائش أرضه وهي راسخة كسمرة جبالها، ملتهبة كحرارة شمسها!!
وامرؤ القيس أمير الشعر العربي في عصره الذهبي كان أول شاعر عربي نزف مشاعر غربته وخط سطوراً من شعره.. عندما ذاق مرارة النوى فأنشد آخر ألحانه:
أيا جارتا إنا غريبان هاهنا
وكل غريب للغريب نسيب!
واستمرت (دموع الغربة) تروي ظمأ المشاعر في أفئدة الشعراء وتطفئ أحياناً حرائق الوجد في نفوسهم.. وقد أثرت (دموع الغربة) تراثنا الشعري بكثير من القلائد التي لا تزال ألحاناً رقيقة مؤثرة ننشدها كلما ألح بنا النوى أو أبعدتنا عن مرابعنا مطالب الحياة.
ويبرز في شعرنا العربي (أبو فراس الحمداني) الذي أدمى القلوب بقصائده التي تقطر حزناً ووجداً عندما أسره الروم، فعانى الغربة في مشاعره ولغته وترابه.. وكانت (روميانه) كما أسماها النقاد من أخلد ما حفظه كتابنا الشعري.. ومنها قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا، لو تشعرين بحالي!
معاذ الهوى! ما ذقت طارقة النوى
ولا خطرت منك الهموم ببال
أتحمل محزون الفؤاد قوادم
على غصن نائي المحلة عالي
أيا جارتا، ما أنصف الدهر بيننا
تعالى أقاسمك الهموم تعالي
أيضحك مأسور، وتبكي طليقة؟
ويسكت محزون ويندب سالي؟
وقمة الحزن على الوطن عندما يكون الابتعاد قسراً، والنوى جبراً.. عندما يتحول أمل العودة إليه يأساً، عندما تتناءى حبات ترابه كما نأت ليلى عن قيسها.. هنا تفيض أحاسيس الشاعر عبرات متكسرة، وآهات مشقية.. وحدث هذا مع الأندلس وشعرائها عندما خلفوا الأمجاد، ورحلوا عن المآثر.. والمآذن.. والفتوح الزاهية.. وهذا أحدهم يختصر حجم أحزانهم بهذه الأبيات:
في أرض أندلس تلتذ نعماء
ولا يفارق فيها القلب سراء
وكيف لا يبهج الأبصار رؤيتها
وكل روض بها في الوشي صنعاء
فيها خلعت عذاري ما بها عوض
فهي الرياض وكل الأرض صحراء
(والوطن) يتعاظم الشجن على فراقه عندما يكون ذا ارتباط بوجدان الشاعر.. أي عندما يتعلق به: تربة وإنسانا، عندما يكون هو حبة ومسكن حبه.. هنا تفيض دموع الغربة فتتحول إلى نزيف داخلي يكون مردوده عطاء شعرياً خالداً كما حدث (لابن زريق البغدادي) في قصيدته المسماة باليتيمة والتي لم يقل غيرها ولكنه خلد بها وخلدت به:
استودع الله في بغداد لي قمراً
(بالكرخ) من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
اعتضت عن وجه خلي بعد فرقته
كأساً أجرع منه ما أجرعه
لا أكذب الله: ثوب الصبر من خرق
عني بفرقته، لكن أرفعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي ستجمعني يوما وتجمعه.
***