** كنت في مجلس فدخل أخ كريم فعرّفه أحد الحضور قائلا: هذا هو الاستاذ فلان بن فلانالمتقاعد فرد عليه سريعا: بل قل المستريح لا المتقاعد .
وقد شدتني هذه الكلمة كثيرا..
فهي معبرة جدا.
وصاحبها كان صادقا..
فلم نره اكثر راحة واشراقا مثلما هو الآن..
ان العمل بطبيعته يسرق من الانسان كثيرا من حيويته ووافرا من نشاطه..
***
** وإنني لا استغرب من شخص يبلغ مرحلة التقاعد ان سنّاً وان سنوات عمل ثم يطلب التمديد..!
ان هذا التمديد القصير يسرق رحيق نشاطه وبقية حيويته، وهو اذا ما تقاعد من بعده فانه يكون غير قادر على الاستمتاع الكامل بسنوات راحته لأن قوى الانسان تضعف مع تقدم العمر.
فتجد السفر يشق عليه وهو من أجمل انماط المتع.
وتجد القراءة لا تريح عينيه دائما.!
واشياء كثيرة جميلة يريد ان يواتيها ولكنها لا تواتيه بحكم العمر والوهن.
***
** إن الانسان..
يستمرىء العمل والوظيفة:
ويحسب انه لا يستطيع ان يعيش بدونها فالكثيرون يتشبثون بها.
بل ويعشقونها، وكأن الواحد منهم قيس، وكأن الوظيفة ليلى!.
واللطيف ان كثيرا منهم عندما يدع الوظيفة وشأنها ويجد الراحة ونص القوت راحة – كما يقولون – تجده يندم على ما فرط فيها من سنوات,, وربما لو رد الى سابق شبابه لطلب التقاعد المبكر,, وهو الذي كان يتمنى ويتطلع ويجلب الوساطات من اجل البقاء يوما واحدا بعد التمديد.
***
** وقد مرت هذه الحالة بمعالي الشاعر المرحوم محمد سرور الصبان الذي كان وزيرا للمالية وعندما ترك المنصب قال قصيدة جميلة ولاحظوا ان كرسي الوزارة ليس ككرسي أية وظيفة ومع هذا فقد قال في قصيدته:
وَهَم الذي ظن الوظائف راحة
هي راحة الأسرى الى الأغلال
وهذا صحيح جدا.
فالانسان يرتاح او يتوهم الراحة مع ما تعوّد عليه، ولو كان تعب الوظيفة وشقاءها لانه معتاد عليها، فيتآلف معها ويظن – ويا لخطأ ظنه – انه لا يستطيع عن الوظيفة فكاكا، او يقدر على ان يبتعد عنها مترا، لكن عندما يدع وظيفته قسرا – ربما قسرا – فان نظرته تتغير كثيرا.
واذكر انني قلت هذا البيت الشعري الآنف لصديق ومسؤول تقاعد – مؤخرا – فأنس به لانه – كما يقول – صوّر عين الحقيقة بل نعيم الحقيقة التي يعيشها هذا المسؤول المتقاعد بعد ان ترك كرسي المنصب بكل شئونه وشجونه وبكل متاعبه وتبعاته..!
***
** وبعد..
الى جانب هذه المكاسب الشخصية – للمتقاعد اقصد المستريح – فان من يترك الوظيفة متقاعدا بحكم السن او سنوات العمل فإنه يتيح الفرصة لطاقات اخرى .. وكفاءات اخرى.. وخريجين جدد..!
وهذه دورة الحياة
جيل يأتي
وجيل يغادر
جيل يؤدي رسالته
وجيل يخلفه
بقي ان نتطلع – مع المرأة العاملة – الى صدور نظام التقاعد المبكر للعاملات بقطاع التعليم، فهذا لن يجلب الراحة للمتقاعدة فقط بل سوف يحقق هدفا ساميا ألا وهو تفرغ المرأة لبيتها بعد ان تكون اسهمت في تقديم رسالتها لوطنها، ثم الهدف الثاني والمهم جدا ألا وهو اتاحة الفرصة لآلاف الخريجات اللواتي لم تتوفر لهن فرص العمل لكثرة المتخرجات ولقلة الفرص المتاحة لعمل المرأة بحكم طبيعة المرأة، وما تقتضيه قيم المجتمع وأعرافه.
***
** واخيرا..!
هنيئا لكم ايها المتقاعدون – عفوا مرة اخرى – اقصد المستريحين فقد حملتم الامانة.
وأديتم الرسالة
وخدمتم دينكم ووطنكم وابناء وطنكم
وآن لكم ان تلتفتوا الى انفسكم وصحتكم وتستمتعوا ببقية سنوات حياتكم، وتمارسوا الكثير من هواياتكم التي حرم العمل بكل مشاغله كثيرا منكم من ممارستها والاستمتاع بها، وسواء كانت هذه الهوايات المؤجلات سفرا او قراءة او أية هواية اخرى..
وبارك الله لكم في اعماركم وأعمالكم.
وأنتم السابقون
في التقاعد وليس امراً آخر..!
ونحن اللاحقون.
***
أنا أنت معلوم.!
* ضحك مني صديق عزيز ضحكة طويلة قبل بضع ليال وانا احدثه عبر الهاتف، وعند نهاية المكالمة قلت له بعد ان ابلغته ما اريد واردت تأكيد هذا الأمر فقلت له: انت معلوم..!.
أجل..!
لقد ضحك وضحكت معه.. ثم اعتذرت له بعد ذلك.
لقد كنت قبل مهاتفته اتحدث مع السائق حول غرض سوف يشتريه ولكيلا يخطىء بالمطلوب.. قلت له العبارة التأكيدية انت معلوم.
وبقيت هذه العبارة على شفتي حتى قلتها لذلك الصديق العزيز.!
والشكوى الى الله..!
فقد فسدت ألسنتنا.. وأصبحنا نعوِّج كلماتنا كي يفهمنا الآخرون، ولا نامت اعين الفصحاء ..!
واذكر هنا موقفا طريفا لصديق طلب من سائقه غير العربي شراء خبز لمنزله، ولانه لم يؤكد عليه هذه الكلمة او بالأحرى لم يقل له انت معلوم فيجيب السائق ب انت معلوم بابا ولهذا فان هذا السائق، احضر لهذا الصديق بدل الخبز خلا ..! وحسبهما ان وجه الشبه بينهما حرف الخاء.
والشكوى الى الله – مرة عاشرة – الى اضطرارنا الى تقليد غيرنا .. ولعل نظرية ابن خلدون قد تغيرت فلم يعد الضعيف يقلد القوي، والمغلوب يقتدي بالغالب بل انعكس الامر في زمن الترف الذي طال أثره حتى لغتنا الجميلة..!
***
** آخر السطور
** اللهم من ولي من أمر امتي شيئا فشقَّ عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من امر امتى شيئا فرفق بهم فارفق به .
كم اتمنى ان يتذكر كل موظف او مسئول لعمله علاقة بالناس هذا الحديث الشريف، وهو يهم بالكتابة على معاملة او في التعامل مع مراجع..!