logo

Select Sidearea

Populate the sidearea with useful widgets. It’s simple to add images, categories, latest post, social media icon links, tag clouds, and more.
hello@youremail.com
+1234567890

كان قدره أن تكون الأرض حضنه: الحب الذي لا يمضي

حمد بن عبدالله القاضي

كان قدره أن تكون الأرض حضنه: الحب الذي لا يمضي

حمد بن عبدالله القاضي

كان قدره أن تكون الأرض حضنه

الحب الذي لا يمضي

                         

حمد بن عبدالله القاضي

   

لعل الله أراد بتاريخ وآداب وجغرافية الجزيرة العربية خاصة، وبتاريخ العرب وأدبهم عامة، خيراً ونفعاً عندما لم يجعل قدر هذا الرجل حمد الجاسر علامة الجزيرة ومؤرخها ورمزها الفكري.. لم يجعل منه مزارعاً بسيطاً يفلح الأرض كما أراد لـه والده في قرية البرود بنجد قبل أكثر من ثمانين عاماً ولكن ضعف جسده لم يهيئه لذلك.. وأراد الله لـه أن يفلح الأوراق بريشته، ويفلح الأرض لكن ليس بمحراثه بل بقلمه.!

وهذا الرجل الذي حرم من حنان أمه وهو ابن سبع سنوات لوفاتها.. بل حُرم منها في أشهره الأولى عندما خرجت مغاضبة من بيت والده، ولكن استرضاها بـ (قطعة قماش)، فعادت إلى منزل زوجها لتكون بجانب صغيرها.

إن فقده لحنان أمه ثم أبيه جعله يبحث عن حنان ام أخرى ألا وهي “الأرض” فكان قدره أن تكون حضنه، وكان قدرها أن تكون أمه فحنا عليها وحنت عليه ((حنو المرضعات على الفطيم)) إذ صادق أحجارها أشجارها وجبالها وتألق معها، وعرّف بها.. والتفت إلى تاريخها فجلاّه، وإلى رجالها الغابرين فعاش معهم حتى أخرج كنوز هذه الجزيرة العربية وبلورها وعرف بها، وأظهرها حتى استوت على سوقها.

وهذا الرجل حمد الجاسر جاب الأقطار، ورحل إلى كافة الديار ليس من أجل امرأة يتزوجها أو مال يظفر به بل من أجل مخطوطة يحققها أو كتاب يسعد بنيله.

■ ■ ■

ان حمد الجاسر- وهو كل ذلك وأكثر منه كان في ليلة تكريمه من قبل المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالرياض.

الرجل الزاهد المتواضع.. وكأنه طوال التسعين عاماً التي حملها على ظهره بكل ما حملت من عطاء وعلم وتحقيق .. كأنه لم يقدم شيئا.. لم يصنع شيئا.. وذلك، لعمر الحق – شأن العظام أبدا.

إنني لم أكن محرجاً وسعيداً، في ذات الوقت، مثلما كنت في ليلة تكريمه وأنا أتشرف بإدارة تلك، الاحتفالية الزاهية، المورقة وفاءً وعرفاناً.. والتي كانت بادرة موفقة من “جنادرية 10” حيث أن هذه الفعالية لعلها ابرز وأجد النشاطات الثقافية للمهرجان العاشر.

أما حرجي فأمام مواجهة ذلك المطر الغامر من عطر الكلمات والتعقيبات التي أراد أن ينشر بعض عقبها أولئك الأوفياء من حضور “ليلة تكريم الجاسر”.. ومثلها تلك الاستفسارات والتعليقات المكتوبة.. وكان الوقت المخصص لهذه الندوة قد تجاوز الوقت المحدد له بساعة كاملة إذ الساعة وقتها تجاوزت الحادية عشرة وكان أن تم الاعتذار عن تلك الكلمات والمداخلات والاستفسارات التي هي بالتأكيد إثراء لهذه الندوة وترسيخ لهذا الوفاء.. خاصة أن بعض راغبي المشاركة رموز ثقافية من خارج السعودية بل أغلبهم من دول المغرب العربي، الذي أشار أحدهم في ورقته التي بعثها إلى “المنصة” أنه جاء ليساهم في تكريم هذا الرجل “الذي ليس للسعودية أو للمشرق العربي وحده بل هو أستاذ لنا بالمغرب العربي”. وكنت قبلها قد طلبت اختصار ورقات المشاركين في هذا التكريم وهم أساتذة اجلاء (الدكتور الضبيب والدكتور الانصاري والدكتور مناع والدكتور العسيلان والباحث الشايع”.

■ ■ ■

أتوقف أخيراً.. في ختام هذه الكلمة الصغيرة عند ختام مسك هذه الأمسية التي تعبق وفاء كخزامى نجد وفل الطائف وتفيض ثمراً كنخيل الاحساء .. أتوقف عند تلك الكلمة القصيرة المؤثرة التي ألقاها المحتفى به الشيخ حمد الجاسر في تلك الليلة، والتي أتمنى ان يكون كل محبي الشيخ استمعوا إليها، فقد شد بها حاضري تكريمه من تلك النخب المثقفة من الوطن العربي ومن مثقفي بلاده. شدهم بتواضعه وزهده، ثم اشجاهم عندما أشار إلى ان مثل هذا التكريم الذي اقتصر على ذكر محاسنه -كما قال- كأنه نعي له مستشهدا – متعه الله بالصحة والعافية ليواصل أداء رسالته – بالأثر الشريف “اذكروا محاسن موتاكم” فدمعت أعين بعض الحضور وهو يشير بتهدج إلى هذا الأثر.

وهو ليس كل أو بعض ما دار في تلك الليلة الوفائية النادرة، التي أراد ان يبدي بها الحضور من السعودية وخارجها امتنانهم وتقديرهم لهذا الرجل.. فلم ينته الحديث ولن ينته تكريم هذا الرجل الذي لم يكن باحثا أو مؤرخا أو أديبا أو رائدا صحافيا بل كان – وهذا هو المهم – ذا ريادة عقلية مستنيرة ومبكرة عندما أقام أول مطبعة في نجد من قوت أولاده، وعندما أنشأ أول صحيفة في قلب العرب، وعندما دعا إلى تعليم المرأة في وقت كانت السعودية في بداية تأسيسها، وكانت مثل هذه الريادات ربما يعتبرها أبناء مجتمعه – أنذاك- من الكماليات التي لا معنى لها، ولكن هذا الرجل كان يراها في مقدمة الضروريات.

■ ■ ■

وبعد

أيها الشيخ الجليل: أقول لك – الآن – كما قلت في تلك الليلة جاعلا “المتنبئ” يعبر عني وعن محبيه الكثر:

 

“مضى الليل والحب الذي لك لا يمضي

          ونجواك أحلى في العيون من الغمض”

 

أجل أحلى من العيون الغمض.. وإذا كنا – نحن أبناؤك وتلامذتك – لا نستطيع ان نرد تحيتك التي امتدت على مدى ثمانين عاما بأحسن منها فلنرد عليها بمثلها على الأقل.

جريدة الشرق الأوسط – 25-3-1995- العدد 5961